بقلم د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة
شكلت مصر دائما ومنذ ما يقرب من 1500 سنة حجر الزاوية في النظام العربي والإقليمي، ولا يعود ذلك فقط لقيمة موقعها الجغرافي وتاريخها الحضاري، بل لأنها دائما ما حملت مسؤولية الدفاع عن قضايا الأمة، وخاصة القضية الفلسطينية في العصر الحديث. فالدولة المصرية كانت وما تزال رأس الحربة في مواجهة محاولات العبث بأمن المنطقة، على اعتبار أن أمنها القومي لا ينفصل عن الأمن القومي العربي، وأن أي مساس بحقوق الشعب الفلسطيني هو تهديد مباشر لمصر ذاتها.
خلال المحاولات الأخيرة لتهجير شعب غزة من أرضه، كان هناك ثباتاً للموقف المصري أمام بعض الضغوط الدولية الهائلة التي مورست عليها، سواء من الولايات المتحدة أو إسرائيل أو قوى متحالفة أخرى، لدفعها نحو قبول مخطط تهجير أهالي غزة. هذه الضغوط لم تكن سياسية فحسب، بل رافقتها إغراءات اقتصادية واسعة تم التلميح إليها في خطابات رسمية وغير رسمية من مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين، مثل الحديث عن إعفاءات من الديون وتقديم حزم مساعدات لتخفيف آثار الأزمات الاقتصادية التي واجهتها مصر بعد جائحة كورونا والأحداث الجيوسياسية العالمية. ومع ذلك، كان رد الدولة المصرية وقيادتها الرشيدة واضحًا وصريحًا: لا تهجير، لا تنازل، ولا مساس بثوابت الأمن القومي المصري والعربي.
هذا الموقف ليس مجرد رفض لمخططات سيئة السمعة، بل هو امتداد لنهج تاريخي مصري يقوم على رفض أي قرارات أو سياسات تنتقص من حقوق الشعب الفلسطيني أو تفرض عليه واقعًا قسريًا. فالمواثيق الدولية والقواعد المستقرة في الأمم المتحدة والقانون الدولي ترفض تهجير الشعوب من أراضيها وتعتبرها جريمة تطهير عرقي، بل وجريمة ضد الإنسانية كلها. وبالتالي، فإن رفض مصر لهذا المخطط لا يستند فقط إلى حسابات الأمن القومي المصري، بل أيضًا إلى التزاماتها الأخلاقية والقانونية كدولة عضو فاعلة في الأمم المتحدة.
إن مخططات إسرائيل في التهجير تهدف في المقام الأول تصفية تامة للقضية الفلسطينية، وتحويلها إلى مجرد ملف تاريخي ينساه المجتمع الدولي مع مرور الوقت، وهو ما حدث من قبل عندما تم تهجير الفلسطينيين من عدة أراضي بحجة حمايتهم، ولم يتمكن هؤلاء المهجرين ولا أبنائهم أبدا من العودة للوطن، وتم تحويل أراضيهم إلى مستوطنات إسرائيلية. كما أن خطورة التهجير لن تقف عند حدود غزة فقط بل ستمتد لتهدد استقرار المنطقة بأسرها. بالنسبة لمصر، فإن القبول بمثل هذه المخططات يمثل تهديدًا مباشرًا لحدودها الشرقية، ويفتح الباب لفوضى أمنية وابتزاز سياسي مستمر، فضلًا عن تهديد بنية الأمن القومي العربي برمته.
لقد اعتقد بعض المسؤولين في الولايات المتحدة وإسرائيل أن الرهان على الضغوط الاقتصادية والسياسية هو الرهان الناجح لدفع مصر نحو تنازلات استراتيجية، لكن على ما يبدوا أنهم لم يقرأوا التاريخ جيدا، فالمتصفح لكتب التاريخ سيكتشف أن مصر واجهت عبر العقود تحديات أعظم، ومع ذلك لم تتنازل يوما عن ثوابتها. فمن مواجهة العدوان الثلاثي وحرب أكتوبر إلى اتفاقيات السلام، ومن دعم حركات التحرر الوطني إلى قيادة العمل العربي المشترك، ظل الموقف المصري ثابتًا: الدفاع عن الحقوق العربية جزء من الدفاع عن الأمن القومي المصري.
أن مصر لا يمكن أن تساوم على أمنها القومي ولا على أمن أشقائها العرب، وأنها رغم كل الضغوط، ظلت ثابتة على مبادئها. وموقف مصر الرافض للتهجير هو رسالة إلى العالم بأن العدالة لا يمكن أن تسقط بالتقادم، وأن الشعوب لا يمكن اقتلاعها من أرضها، وأن مصر ستظل دومًا حائط الصد الأول في مواجهة المخططات التي تستهدف الأمة. هذا الموقف التاريخي لمصر وقيادتها وشعبها سيظل شاهدًا على أنها لم تكن يومًا دولة تبحث عن مصلحة آنية أو مكسب مرحلي، بل كانت دائمًا الدولة التي تقف مع الحق، مع الاستقرار، ومع حماية مستقبل شعوب المنطقة.