مقالات كبار الكتاب

دكتور “محمود السعيد” يكتب ..دروس من التاريخ

كتب د. محمود السعيد.. نائب رئيس جامعة القاهرة

شهد التاريخ الإنسانى نشوء دول وحضارات عظيمة سادت وازدهرت لفترات، بعضها كان لفترات قصيرة وبعضها استمرت آلاف السنين، لكنها فى النهاية سقطت، ولم يبق من آثارها إلا أطلالً صامتة تحكى قصص المجد والصعود وكذلك قصص الانهيار والهبوط. وعلى الرغم من تعدد أسباب انهيار الدول والحضارات، إلا أن هناك عاملا مهما جدا يعتبر قاسمًا مشتركًا بين الكثير منها لا يمكن ألاٌَ تلاحظه عين القارئ لقصص التاريخ، وهو انتهاج هذه الدول والحضارات لسياسات من شأنها ظلم الشعوب الأخرى. فكل الحضارات التى بنت مجدها على حساب الآخرين ووسعت أراضيها على حساب أراضى الدول الأخرى دون وجه حق، ووقفت مع الظالم ضد المظلوم، سرعان ما وجدت نفسها فى هاوية سحيقة تواجه فيها السقوط الحتمي، لأن أسس الحكم فيها لم تكن راسخة على مبادئ العدالة والاستدامة.

عندما نستعرض قصص صعود الدول وازدهار الحضارات التى ترويها أطلالها الباقية، نجد أن فصول كل قصة تتحدث عن عصورٍ شهدت رخاءً اقتصاديًا وفائضًا غذائيًا يدعم استدامة التنمية فى هذه الدول، مما أدى إلى استقرار المجتمعات وارتفاع جودة الحياة لمواطنيها. كان ذلك النمو دائما مرتبطًا بوجود تعداد سكانى كبير يعيش فى بيئة مستقرة، تديرها حكومة مركزية قوية تتبنى سيادة القانون كمنهجٍ أساسى فى الحكم، مما يضمن العدل والمساواة فى تعامل الدولة ليس فقط مع شعبها بل أيضا ًمع شعوب الدول الأخرى.

وغالبًا ما كانت تتسم هذه الدول والحضارات بوجود وحدة دينية توحّد بين أبناء الشعب حتى لا تحدث نزاعات على أساس دينى أو فكري، أو أن النظامٍ السياسى كان يضمن احترام حرية العقيدة وتقبل الاختلاف الفكرى والديني، مما يعزز التماسك الاجتماعى ويحدّ من النزاعات بسبب اختلاف العقيدة أو الفكر. بالإضافة إلى ذلك، كانت الدولة تجمع الضرائب لتمويل مشاريع تنموية قومية تهدف إلى تحسين البنية التحتية وتعزيز رفاهية المجتمع، مما يضمن استمرار التطور والازدهار.

أما فصول قصص التاريخ التى تحكى عن الانهيار والفشل والتحلل للدول والحضارات فتبدأ ببيان كيف أنها انهارت بسبب إهمال هذه العوامل الأساسية لضمان الاستدامة المشار إليها عاليه، وتحولت مع الوقت إلى أنظمة سياسية تستغل موارد الشعوب الأخرى ظلماً وقهراً، وتحكى قصص التاريخ أنه بسبب هذا الظلم تبدأ الدولة مرحلة التصدع الداخلى والمعاناة بسبب غياب العدالة وانتشار الفساد والسخط الاجتماعي، ثم الانهيار الحتمي، حيث تتلاشى قوتها تدريجيًا حتى تصبح أثرا من الماضي. فالحضارات التى قامت على استغلال الشعوب الأخرى، ونهب خيراتها، كانت أكثر عرضة للانهيار. فالتاريخ يخبرنا أن الظلم يولّد السخط تجاه الدولة، والسخط يقود إلى الثورات ضدها أو التمردات التى تزعزع استقرار أى نظام. كما أن دعم الظالمين ضد المظلومين يوجد أعداءً كُثرا، وعندما تأتى لحظة الضعف، لا تجد هذه الحضارات من يدافع عنها، بل يتكاتف الجميع ضدها للقضاء عليها.

فإذا نظرنا إلى التاريخ لنستعرض كيف أن ظلم الآخرين أدى إلى الانهيار فنجد الحضارة الرومانية نموذجا صارخا، فقد كان الاقتصاد الرومانى يعتمد على الغزو والعبودية واستخدام العبيد من الشعوب الأخرى عمالا، مما جعله نظاما سياسيا غير مستدام وعرضه للصدمات. فعندما تراجعت الغزوات الرومانية بحكم وجود قوى دولية جديدة وحضارات ناشئة طموحة، انخفض عدد العبيد الذى تعتمد عليه الدولة الرومانية فى إدارة اقتصادها، مما أدى إلى نقص العمالة وانهيار الإنتاج. وهو ما أدى إلى قيام الدولة الرومانية بانتهاج سياسات الضرائب الجائرة التى أدت إلى التضخم وإضعاف الاقتصاد، بينما أسهم الظلم الاجتماعى والفساد الداخلى فى تسريع سقوط الإمبراطورية على يد القبائل الجرمانية. أيضا فى أمريكا الجنوبية كانت حضارة المايا متقدمة جدا فى العلوم والفلك، إلا أن حكام المايا أسرفوا فى فرض الضرائب على سكان الممالك التى يحكمونها، واستغلوا قوتهم لمصالحهم الشخصية. ولذلك مع قدوم الاسبان لأمريكا، انهارت حضارتهم بسرعة، حيث لم تجد بعض الشعوب فى ممالكهم، مثل شعب المكسيك، مبررًا للدفاع عن نظام ظلمهم واستنزف مواردهم.

وفى ظل النظام العالمى أحادى القطبية الذى نعيشه اليوم، بدلاً من أن تنحاز القوة العظمى للحق والعدل، نجدها تدعم الظالم على حساب المظلوم. فهى تدعو شعبًا أعزل إلى ترك أرضه طوعاً أو قسرًا بذريعة إعادة الإعمار وإنشاء «ريفيرا الشرق الأوسط»، وفى نفس الوقت ترفض الخطة المصرية الحكيمة التى تضمن إعادة الإعمار دون تهجير. ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ يفرض رئيس هذه القوة ضرائب باهظة على السلع المستوردة من الدول التى ترفض إملاءاته السياسية والاقتصادية، مثل كندا والمكسيك، مما يهدد العالم بموجة تضخم جديدة تفاقم ارتفاع الأسعار.

يعلّمنا التاريخ أن الظلم وإهمال العدل كانا دائمًا من أسباب سقوط أعظم الحضارات. فالدولة التى تبنى قوتها على نصرة الظالم قد تزدهر مؤقتًا، لكنها تحمل فى داخلها بذور فنائها. وحدها الحضارات العادلة تبقى، أما تلك التى تقوم على الظلم، فمصيرها الزوال مهما بلغت قوتها.

بواسطة د. محمود السعيد .. نشر في الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى