مقالات كبار الكتاب

د. محمد عثمان الخشت يكتب .. إجابة العقل عن معضلات موسى (2)

كتب د. محمد عثمان الخشت

“دوما الظاهر وحده لا يكفي، ولابد من التعمق فيما هو أبعد منه حتى يمكن إدراك الحقائق، وهنا يأتي دور العقل في عملية الإدراك التي تذهب إلى أبعد مما تدركه الحواس. وعندما يعجز إدراك الشخص العادي، يأتي دور الحكيم لكي يقوم بتأويل النص أو تأويل الظاهرة أو الموقف، هنا يقول العبد الصالح لموسى: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا).
فما معنى التأويل؟
التأويل له معان كثيرة، ويحتاج مقالات عديدة، ربما يحين وقتها لاحقا، ويمكن أن نقول بإيجاز شديد، إن التأويل هو الإيضاح لما هو أبعد من الظاهر، أبعد من المحسوس، أبعد من الفهم الظاهري للنصوص أو الرموز أو الأحلام والرؤى أو الوقائع أو المواقف. فالتأويل هو الوقوف على يَؤُولُ إِلَيْهِ الشَّيْء، أي يرجع إليه الشيء، سواء بمعرفة ما وراءه، أو ما يرمز إليه، أو أسبابه وعلله الأولى، أو الحكمة والمراد منه.
وغالبا ما يشير المفسرون إلى أن التأويل يتعلق فقط بتفسير النصوص بالذهاب إلى المعنى الباطن لها، أو صرف الآية عن معناها الظاهر إلى معنى آخر تحتمله. كما يشمل التأويل تفسير أي شيء ينطوي على رموز مثل الأحلام والرؤى. ومن وجهة نظرنا أن التأويل ليس مقصورا فقط على ذلك، بل يشمل أيضا تفسير الوقائع الخارجية والظواهر لفهم حقيقتها الكامنة وراء المحسوس منها عن طريق ذكر العلل الأولى غير المباشرة، كما يشمل التأويل فهم المواقف الإنسانية والتصرفات في ضوء مقاصدها والحكمة منها.
وفي حالة مواقف العبد الصالح التي لم يفهمها موسى الذي يقف عند الظاهر وحده، يكون المعنى الثاني هو المقصود، أي تفسير تلك المواقف أو الوقائع الحادثة بمعرفة ما يكمن وراءها، والوقوف على الحكمة منها، تلك الحكمة التي لا تظهر بكل مباشر، بل تختفي وراء الظاهر. ومن هنا فالتأويل يستخدم أيضا في فهم وقائع الحياة.
وهنا يمكن فهم حادثة خرق السفينة بكل بساطة: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) (الكهف: 79).
لكن الموقف الثاني من العبد الصالح أصعب وأكثر معضلة أمام موسى، بل لا يزال يمثل معضلة أمام الكثيرين حتى يومنا هذا. أقول هذا بصراحة مطلقة، فلا يزال في نفوس البعض منه شيء حتى الآن على الرغم من التأويل الذي قدمه العبد الصالح!
ويمكن صياغة الموقف الثاني للعبد الصالح على النحو التالي:
أولاً- الفعل غير المعقول ظاهرياً:
(فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ)
ثانيا- المعضلة:
(قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا).
ثالثا- الحكمة العقلية تتجلى مع تأويل العقل السببي للحادثة:
(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا).. (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا).
بدا لموسى أن حادثة قتل الغلام حادثة مزعجة، وتسرع بالجزم بأن نفسه نفس زكية طاهرة دون أن يكون لديه أية معلومات عنه ولا عن أفعاله وسيرته، ودون أن يكون لديه أية معرفة بالنتائج البالغة الضرر المترتبة على أفعاله المستمرة!
أما أولئك الذين لا يزال في أنفسهم شيء حتى الآن؛ فذلك لأنهم يتصورون أن الغلام طفل لم يصل إلى مرحلة التكليف بعد، كما فهموا أن العقاب تم على فعل لم يحدث، بل على فعل مستقبلي متوقع، كما اعتقدوا أن الحكم بالقتل إنما هو حكم فردي من العبد الصالح!
ومما جعل البعض يتوجسون من مخالفة ذلك للعدالة، أمور عديدة، من أهمها:
الأمر الأول: أن التفسيرات التقليدية في التراث، فسرت “الغلام” على أنه الطفل غير البالغ! فكيف يعاقب كائن غير مكلف بأقصى عقوبة؟
الأمر الثاني: أنه بدا من التفاسير التراثية المختلفة، أنها فهمت أن العقاب على فعل لم يحدث، وإنما على فعل مستقبلي متوقع، فكيف يتم العقاب على فعل لم يحدث؟!
الأمر الثالث: أن التفاسير القديمة تصورت أن قرار قتل الغلام هو قرار “فردي” من العبد الصالح وليس قرارا “جماعيا”.
ولعل السبب في كل هذا الخلط، هو المرويات التراثية غير الثابتة تاريخيا بيقين، والتي مصدرها الرئيس هو الإسرائيليات التي اغتر بها الرواة، والاعتماد عليها في تفسير القرآن الحكيم، بل الغريب أن بعض المفسرين الذين يجعلون اللغة مرجعية في التفسير، لم يفعلوا ذلك هذه المرة؛ ولم يحاولوا فهم معنى “الغلام” في أصلها اللغوي، ولا في ضوء استخدامها في لغة العرب القدماء؛ حيث صنعت تلك المرويات التراثية غشاوة كثيفة على الإدراك المباشر لمعاني القرآن.
لكن إذا أولنا القرآن بالقرآن في حدود الاستخدام اللغوي للألفاظ، وفي ضوء السياق، فسوف نجد أن تلك التفسيرات ما هي إلا ابتعاد عن المقاصد القرآنية البينة.
ويبدو أن تأويل العبد الصالح للموقف الثاني من مواقفه بحاجة إلى تأويل إضافي، فما “تأويل” التأويل؟
الإجابة في المقال القادم إن شاء الله تعالى”.
أستاذ #فلسفة_الدين_ رئيس جامعة القاهرة-
عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى