عبدالحليم قنديل يكتب … غزة وحدها تنتصر
كتب عبدالحليم قنديل
“غزة” تنزف وحدها وتقاتل وحدها ، ولا أحد يدفع معها ضرائب دم ، ربما باستثناء أهل الضفة الفلسطينية ، فيما تخاذلت غالبية الأنظمة العربية ، بل وتواطأ بعضها ، اللهم إلا من تصرفات فى الدبلوماسية الدولية ، ربما لذر الرماد فى العيون ، من نوع التحرك الرسمى العربى والإسلامى فى الجمعية العامة للأمم المتحدة ، واستصدار قرار بأغلبية كبيرة ، يطالب بوقف إطلاق نار إنسانى ، رفضته واشنطن و”إسرائيل” ، وعدد قليل غالبه من أشباه الدول ، التى لا ترى على الخرائط حتى بالميكروسكوب ، من عينة “ميكرونيزيا” و”جزر مارشال” وما يشبهها ، وبرغم أن القرار غير ملزم فى التنفيذ ، شأنه شأن قرارات مجلس الأمن “الملزمة” شكلا ، لكن مجرد صدور القرار ، كشف عن قوة هائلة لعدالة القضية الفلسطينية ، ولنجاح عربى ممكن ، حتى لو كان رمزيا ، إذا تواتر التفاف عربى وإسلامى لنصرة الدم الفلسطينى فى عالم متغير ، بدا فيه المجتمع الدولى “الحقيقى” مناصرا للحق الفلسطينى ، ورافضا لحرب الإبادة الجماعية الهمجية التى يشنها جيش الاحتلال ، وإلى حد أن دولا فى أمريكا اللاتينية على بعد آلاف الأميال من فلسطين ، تحركت وقطعت علاقاتها مع “إسرائيل” كما قررت “بوليفيا” ، أو سحبت السفراء من “تل أبيب” كما فعلت “كولومبيا” و”شيلى” ، بينما استقال دبلوماسيون أمميون احتجاجا على المذبحة الجارية لأهل “غزة” ، واستقال موظفون كبار حتى فى أمريكا وبريطانيا ، بينما لم نسمع عن استقالة مسئول عربى واحد كبيرا كان أو صغيرا ، ولا استجابت دولة عربية واحدة ـ فيما عدا الأردن ـ من “المطبعين” لمطالب سحب السفراء وقطع العلاقات مع العدو ، وقد أصبح ظاهرا ، أن العدو هو أمريكا وإسرائيل وأغلب دول أوروبا فى نفس واحد ، ومن دون أن تتحرك دولة عربية واحدة منتجة ومصدرة للبترول والغاز الطبيعى لقطع الإمدادات عن الغرب الذى يقتلنا ، ولا حتى التنادى لعقد قمة عربية عاجلة ، برغم انقضاء نحو شهر كامل على حرب الإبادة الدموية للمدنيين فى “غزة” ، وأعدادهم تزيد على نحو فلكى كل يوم ، والمجازر “الإسرائيلية” تتوالى بالعشرات ، وأحدثها فى مخيم “جباليا”، وما يزيد على العشرة آلاف قتلوا حتى اليوم بغارات وقصف وحشى لا يتوقف ، أغلبهم من الأطفال والنساء ، وكل موارد الحياة تقطع عن “غزة” ، من الطعام والدواء والماء حتى الاتصالات والإنترنت ، فى محرقة بشرية شنيعة ، يندر أن تجد لها مثيلا فى مطلق التاريخ الإنسانى ، ناهيك عن دهس القوانين الدولية وحقوق الإنسان ومواثيق الحروب ، التى صدع بها الغرب المنافق رءوس العالمين ، وسقط بالثلث فى امتحان فلسطين وعذاب “غزة” .
وقد لا يستطيع أحد تجاهل وجوه المأساة المفزعة فى “غزة” ، لكن المآسى هى الوجه الآخر لبطولات قتال خارقة ، توالت صورها الباهرة فى الأيام الأولى لحرب “طوفان الأقصى” ، وتتدافع صورها الجديدة مع بدء الغزو البرى “الإسرائيلى الأمريكى” ، فبرغم غياب التكافؤ بأى معنى فى موازين القوة المسلحة ، تبدو قوات الغزو فى وضع بائس يائس ، تتقدم خطوات فى الخلاء الزراعى المحيط بمدينة “غزة” ، أو على محاور “رفح” و”خان يونس” ، ويبدو أحيانا أنها تحقق شيئا فى قطع الطرق الرئيسية داخل “غزة” الصغيرة المحاصرة من 16 سنة ، لكنها تفاجأ بصدمات الأشباح ، الذين أذاقوها الويلات والمذلة فى أول أيام الحرب ، ويخرجون اليوم من مدن الأنفاق تحت الأرض ، ويقاتلون بأسلحة من صنع أيديهم ، ويكلفون العدو “ثمنا باهظا” يعترف ببعضه ، وبتردد مرتعب ، خصوصا فى دماء الحنود والضباط المذعورين ، وهم يستقوون بما ملكت أيديهم من طائرات ودبابات وصواريخ وقنابل أمريكية خارقة ، يتحول الكثير منها إلى “حديد خردة” فى الميدان ، ويتوالى فشل خطط الجنرالات الأمريكيين ، وتسقط أساطير قوات النخبة “الإسرائيلية” والأمريكية ، ولا يبدو لفشل العدو من نهاية مريحة ، حتى لو نجح مئات الألاف من جنودهم فى غزو “غزة” بكاملها ، فلا هدف عندهم وارد التحقق ، لا القضاء على قوات المقاومة وكتائبها ، ولا خلق وضع يناسبهم فى “غزة” ، من نوع جلب السلطة الفلسطينية فى “رام الله” إلى حكم “غزة” ، وقد قال مسئولوها أنهم لن يذهبوا إلى “غزة” على ظهر دبابة “إسرائيلية” ، ولا حتى “إدارة دولية” يقترحها الغربيون الأوربيون بدعوى توفير الحماية لكيان الاحتلال ، فلا أهل “غزة” يقبلون ، ولا الفلسطينيون جميعا ، ولا الدول العربية المجاورة خصوصا فى مصر ، التى تداوم على رفض كل الصيغ الملتوية لتهجير الفلسطينيين ، ورفض عروض بمئات مليارات الدولارات ، دفاعا عن أرض مصر وقضية فلسطين معا ، والحيلولة دون حدوث نكبة جديدة ، على طريقة ما جرى عام 1948 ، وكلها اعتبارات تضاعف من خطورة مأزق العدو “الإسرائيلى” الأمريكى ، وتدفعه إلى تعويض خسارته العسكرية القائمة والمحتملة بعقاب أهل “غزة” جماعيا ، وتفريغ غضبه الانتقامى بجرائم إبادة غزة حجرا وبشرا ، وهو ما لن يكتمل أبدا ، برغم التخاذل العربى المقيت فى نصرة الصامدين ، فقد تحولت “غزة” النازفة الدامية إلى قلعة أساطير غير مسبوقة ، وإلى شارة نصر تتحدى بؤس الزمن وتفشى أوبئة الظلم والقهر .
ويتحدثون فى “إسرائيل” عن حرب طويلة ، وستكون كذلك فعلا ، حتى لو جرى التوصل إلى “هدن” موقوتة ، والحروب الطويلة هى آخر ما يفيد كيان الاحتلال ، الذى لن يقوى على تحمل التكاليف والخسائر البشرية بالذات ، فالتكنولوجيا الحربية المتقدمة قد تجلب مزايا موقوتة ، لكنها لا تحسم الحروب فى النهاية ، وقد تحطمت و”عميت” هذه التكنولوجيا فى غمضة عين صباح السابع من أكتوبر 2023 ، وثبت أن التكنولوجيا يمكن تحديها وشل فاعليتها ، وبالذات مع قدرة الطرف الفلسطينى المقاوم على إبداع تكنولوجيا بديلة بأرخص التكاليف المالية ، فالشعب الفلسطينى هو أفضل الشعوب العربية تعليما وإبداعا ، ثم أن المحنة الفريدة التى كابدها على مدى قرن كامل ، قد خلقت الفلسطينيين خلقا جديدا ، فوق المقدرة الفطرية الهائلة على تحمل الآلام والنكبات والمجازر ، وتجاوزها بالإيمان الراسخ بالله وبالحق الذى لا يموت ، الذى يسعى للشهادة باعتبارها غاية الأمانى ، ويستقبل المصائب بالصبر الجميل ، ويستولد من المحنة المنحة ، ويضاعف من صلابة الروح المعنوية الجماعية ، ويدفع إلى الساحة بحركات مقاومة جديدة ، ففى وقت ما ، كانت “حركة فتح” فى قلب الصورة الفلسطينية ، واليوم تبدو “حماس” وريثة لنداء المقاومة ذاتها ، وإذا اختفت “حماس” فى أى وقت افتراضا ، فسوف تولد آلاف من خلايا “حماس” و”فتح” جديدة ، فقد عرف الشعب الفلسطينى طريقه الذى لا طريق غيره ، وأدرك أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها ، وزاده ثباته على أرضه ثقة أكيدة فى نصر الله لعباده المقاومين ، وقد كانت “غزة” على الدوام هى القابلة الولادة لحركات المقاومة الفلسطينية الكبرى ، ربما لسبب يبدو ظاهرا ، هو أن “غزة” خزانة القضية الفلسطينية ، وغالب أهلها من “المهجرين” أصلا من قلب نواحى فلسطين التاريخية ذات السبعة والعشرين ألف كيلومتر مربع ، وفى كثافة “غزة” السكانية إيحاء رمزى قوى بالتحول الذى جرى ويجرى ، وتحول الفلسطينيين مجددا إلى أغلبية سكانية راجحة فى كل أرض فلسطين التاريخية ، بينما يجرى على الجانب الآخر انكماش وتآكل ، وتنضب مخازن “الهجرة اليهودية” المستعدة للذهاب إلى استيطان فلسطين ، وكانت هجرة وجلب اليهود “السوفييت” فى تسعينيات القرن العشرين ، آخر عملية نقل دم كبرى لكيان الاحتلال الاستيطانى ، بينما لا تستطيع الحركة الصهيونية إقناع ملايين اليهود الأمريكيين بالذهاب إلى فلسطين ، بل العكس هو الذى تتواتر مشاهده ، واكتساب جنسيات طوارئ احتياطية صار عادة متفشية عند ملايين الإسرائيليين ، فوق زيادة معدلات الهجرة العكسية بإطراد ، وتضاعف ميول الفرار الجماعى للمستوطنين وتفريغ المستعمرات فى الشمال والجنوب ، مع المخاوف المستجدة المرعوبة من أسلحة جماعات المقاومة فى الجوار ، وكلها مشاهد ليست مرشحة للتراجع ، فقد انفصمت عرى الثقة بين المستعمرين “اليهود” وجيشهم الحامى ، الذى ظنوا طويلا أنه لن يقهر ، بينما رأوا قهره ممكنا عاصفا على يد ألف من المقاومين صباح السابع من أكتوبر الماضى ، وهى واقعة لن تمحى أبدا من ذاكرة “اليهود الإسرائيليين” ، تذكرهم دائما بالعقاب الذى ينتظرهم ، وبالافتقار إلى الأمن فى وطن سرقوه من أهله الحالمين بالعودة ، بينما الفلسطينيون لن يخسروا شيئا أكثر مما خسروا فى عقود طويلة ، واستعدادهم للتضحية بغير حدود وبلا سقف ، وعندهم عقيدة قتال مقاوم لا تفتر ، يظهر أثرها اليوم فى معارك “غزة” ، وتنتقل روح “غزة” إلى الضفة والقدس والداخل الفلسطينى ، وصنعت وتصنع ثورة وصحوة جديدة ، قادرة على إنهاك العدو فى مراحل قائمة ومقبلة ، تنزل هدف التحرير من فضاء الأمانى المحلقة إلى تواريخ التحقق الزاحفة بإذنه تعالى .
[email protected]