فعلها سيد الكرملين
كتب عبدالحليم قنديل
هل حقا كان هناك انقلاب فى “موسكو” ؟ وهل تمرد “يفجينى بريجوزين” قائد جماعة “فاجنر”على الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” ؟ لا يبدو من جواب واضح وقاطع ، برغم زحام الأخبار والتحليلات المنشورة فى كل الدنيا ، وبرغم تدفق صور أرتال “فاجنر” إلى مسافة 200 كيلومترا جنوب العاصمة “موسكو”، بعد أن سيطرت على مقر القيادة العسكرية الجنوبية فى مقاطعة “روستوف”، وبعد أن جلس “بريجوزين” مع قادة عسكريين كبار عند باب القيادة ، هم يحادثونه بهدوء ، بينما يرفع قائد “فاجنر” صوته ، وهو يرد عليهم بلهجة آمرة ، ويطلب تسليمه وزير الدفاع “سيرجى شويجو” ورئيس الأركان الجنرال “فاليرى جيراسيموف”، ربما ليحاكمهما أو يقتلهما ، أو يعلقهما على مشنقة فى الميدان الأحمر ، وإلى غيرها من تصريحات صاخبة ، سبقت تحرك قواته العاصف ، بدءا من السابعة صباح السبت 24 يونيو 2023 إلى ساعات المساء ، التى انتهى عندها كل شئ ، وسحب “بريجوزين” قواته كلها فى دقائق ، ومن دون أن يتعرض لها أحد ، ولو بطلقة رصاص طائشة ، لا فى الذهاب ولا فى الإياب .
وقد لا تكون القصة كلها مسرحية مصنوعة ، وإن لم تخل الوقائع الحاكمة فيها من “تمسرح” ، بدا دور البطولة الظاهر فيها معقودا لقائد “فاجنر” الزاعق المتعجرف ، بينما البطل الحقيقى هو الرئيس “بوتين” ، الذى حصد تعاطف الداخل الروسى فى أغلبه ، وأدار اللعبة كلها بدهاء واثق ، وأرغم “بريجوزين” على سحب لسانه ، وكان الأخير قد أعلن ما يشبه الحرب على “بوتين” نفسه ، وأعرب عن خيبة أمله من خطاب “بوتين” الأول المتشدد ، الذى اتهم “بريجوزين” وجماعته صراحة بالخيانة العظمى ، ثم راح يدير التفاصيل فى الخفاء ، ويسمح لرجله الرئيس البيلاروسى “ألكسندر لوكاشينكو” بإبلاغ “بريجوزين” باتفاق عاجل ، قضى بأن يذهب “بريجوزين” إلى “بيلاروسيا” ، وأن ينتهى “التمرد” المعلن ، وهو ما نفذه “بريجوزين” فورا ، وبدعوى الحيلولة دون سفك الدماء الروسية ، وقبل أن يغادر إلى المنفى البيلاروسى الصورى ، صدر عنه شريط صوتى ، نفى فيه أنه كان يريد الانقلاب على السلطة الروسية ، أو أنه كان يريد إزاحة “بوتين” الرئيس “المنتخب” كما قال ، وإن أكد على كراهته لوزير الدفاع ورئيس الأركان ، وقد بقيا فى منصبيهما بعد كل ما جرى ، وربما حتى إشعار لاحق قد يتأخر ، فقد أراد “بوتين” أن يؤكد ما هو مؤكد ، من أن الخيوط كلها فى يده ، وأن لا صوت يعلو فوق صوته ، وعلى العكس تماما مما روجته وتروجه السياسة والدعاية الغربية ، ومزاعمها المدفوعة بالتمنيات عن ضعف “بوتين” ، ناهيك عن نشر قصص بدت مغالية فى “الهطل” ، من نوع هروب “بوتين” من قصر الكرملين ، وقت تقدم قوات “فاجنر” إلى “موسكو” ، وإعلان واشنطن عن تأجيل فرض حزمة عقوبات على “فاجنر” ، وحتى لا يبدو أنها تدعم بوتين المتراجع خوفا من زحف “فاجنر”! ، وإلى حد بدت معه الدعاية الغربية ، وكأنها فيلم مقاولات هابط ، يصور روسيا كأنها دولة فاشلة ضائعة ، انفكت عنها سلاسل الضبط والنظام العام ، وتدفع واشنطن إلى مغازلة “بريجوزين” ، الذى قد تذهب إلى جيبه “أزرار” الحقيبة النووية الروسية ، ويصير سيدا للكرملين ، وبيده قوة “الثالوث النووى” الروسى الرهيب ، ثم كانت النهاية السريعة المفاجئة لما جرى ، وكأنها “دش ثلجى” من أعماق برودة “سيبيريا” ، أغرق تجهيزات الأفراح والشماتة والليالى الملاح فى عواصم الغرب ، التى أمرت أوكرانيا بتطوير “الهجوم المضاد” فى اللحظة الذهبية الموهومة ، وتوجيه ضربة قاضية للوجود الروسى فى شرق أوكرانيا وجنوبها ، وهو ما بدا كانسياق عبثى وراء سراب خادع ، يحسبه الظامئون الغربيون بئر ماء فرات.
إنها خيبة الغرب “بالويبة” فى فهم الداخل الروسى ، وقد تكون لهم أعذار فى صعوبة فك الشفرات ، ربما لغلبة أمنياتهم على الواقع ، وربما لأن ألغاز روسيا معقدة فى ذاتها ، فالروس أنفسهم يرددون مثلا يقول “روسيا لا تفهم بالعقل” ، فالبلد الأوسع مساحة بما لا يقاس على كوكب الأرض ، والمتنوع فى قومياته وأعراقه التى تناهز المئتين ، قد يكون مغريا باختراقه وشد أطرافه الكونية ، لكن صلابته برغم تنوعه المدهش ، تأتى من قوة القبضة المركزية فيه ، ومن صبره واحتماله الهائل لمكاره وهزائم ، يخرج بعدها أقوى ، وهو ما بدا فى وقائع تاريخ حديث ومعاصر ، من نوع قهره لحملة “نابليون” و”حملة هتلر” ، ومع تفكيك إمبراطورية موسكو “السوفيتية” أوائل تسعينيات القرن العشرين ، بدا أن قصة روسيا طويت للأبد ، وأنها صارت فريسة للغرب ، ولم يكد يمر عقد من الزمان ، حتى راحت روسيا تنهض من كبوتها ، وتشد عصبها المركزى مع قيادة بوتين رجل المخابرات الغامض ، وفى أجواء المحنة فالإفاقة ، كانت عصابات “الأوليجارشية” فى الاقتصاد والسياسة والشارع ، تبنى سلطات ظل مسيطرة ، بدأ بوتين التخلص منها بذكاء ومكر وخداع ، ولجأ إلى توظيف بعضها ، أو التخلص التدريجى منها ، وهو ما فعله مع كثير من حيتان روسيا بعد فوضى فترة “بوريس يلتسين” المخمور دائما ، والذى صعد “بوتين” من تحت ذقنه ، تماما كما تكونت ظواهر عصابات المافيا الروسية ، ومليارديرات السلب والنهب ، الذين دخل معهم “بوتين” فى مراوغات فمعارك ، وشئ من ذلك جرى فى دراما علاقته مع ” بريجوزين” ، الذى كان مجرما بطبعه ، وسجينا جنائيا فى أواخر العهد السوفيتى ، كان مدانا بجرائم سطو مسلح ، وخرج للحرية مع سنوات الفوضى ، وبنى سطوته “المافياوية” فى مدينة “سان بطرسبرج” ، وهى مسقط رأس “بريجوزين” و”شويجو” و”بوتين” نفسه ، وقد كان “شويجو” وزيرا فى عشر حكومات توالت منذ أيام “يلتسين” ، وتوثقت صلاته مع “بوتين” ، الذى اصطفاه فى مهمات خاصة ، كان أبرزها توليته “وزارة الطوارئ” شبه العسكرية ، ثم اختاره وزيرا للدفاع ، برغم أنه ليس عسكريا من أصله ، تماما كحالة قائد ومؤسس جماعة “فاجنر”، الذى يعرف بلقب “طباخ بوتين” ، وبنى سلسلة مطاعم شهيرة ، ذاع صيتها بعد حصولها على عقود توريد الأطعمة إلى قصر الكرملين فيما بعد ، وصار “بريجوزين” الذى تضحمت ثروته بسرعة ، رقما فى معادلات “بوتين” وصديقا فى الدائرة المقربة ، ومن حملة أسرار “الكرملين” ، وكلفه “بوتين” بإنشاء “فاجنر” كشركة أمنية ، برغم أن القانون الروسى ، لم يكن يسمح بإنشاء شركات عسكرية خاصة ، وظل الوجود “العرفى” لقوات “فاجنر” يواصل صعوده ، ويبنى أسطورته منذ عام 2016 ، وراح نشاطها “العرفى” يتمدد بسرعة من “الدونباس” الروسى فى أوكرانيا ، وإلى سوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى والسودان ومالى وغيرها ، وإلى أن صارت عنوانا مشتهرا للنفوذ الروسى ، تتكون جماعاته المقاتلة أساسا من نخبة عسكريين روس متقاعدين ، إضافة لسجناء ومجرمين من عينة قائدهم “بريجوزين” ، وخاضوا معارك مميتة فى حرب أوكرانيا ، لعل أبرزها جولات “مفارم اللحم” فى “سوليدار” ثم فى “باخموت” ، وبما أغرى قائد “فاجنر” المدعوم من “بوتين” ، أن يناطح بعض قادة الجيش الروسى نفسه ، وأن يتخذ من “شويجو” و”جيراسيموف” موقفا صداميا ، تدرج من نقد بدا متفقا عليه إلى انفجار عصبى ، بعد قرارات صدرت بعلم “بوتين” ، قضت باشتراط تعاقد أى قوات رديفة مع وزارة الدفاع ، أى مع “شويجو” عدو “بريجوزين” ، وهو ما رآه الأخير محاولة لتصفية نفوذه المتضخم ، خصوصا بعد اتهامه لوزارة الدفاع بقصف وقتل الكثير من جنوده ، وإلى أن جرى ما جرى عاصفا وزاحفا باتجاه “موسكو” ، وهنا وجد “بوتين” أن اللحظة قد حانت ، فقد ظل صامتا قبلها لشهور ، وهو يراقب دورات شتائم “بريجوزين” لقادة وزارة الدفاع ، الذين اختفوا بالأمر عن الأنظار فجأة يوم “التمرد” الموصوف ، ولم يصدر عن “شويجو” و”جيراسيموف” حرفا ولا تعقيبا واحدا ، ولا صدر أمر بطلقة رصاص من “بوتين” نفسه ، الذى وجد أن الفرصة نضجت أخيرا لتقليم أظافر “بريجوزين” ، وربما إعادة توظيفه فى مهمات أخرى ، وهو ما أكدته تصريحات “سيرجى لافروف” وزير الخارجية ، التى طمأن فيها دولا أفريقية على استمرار خدمات “فاجنر” لصالحها ، ثم بدت التفاصيل أكثر وضوحا مع إعلان “بوتين” نفسه ، أنه يقدر وطنية وبطولة الأغلبية العظمى من عناصر “فاجنر” ، ويدعوهم إلى واحد من ثلاث خيارات ، إما التعاقد كأفراد مع الجيش الروسى فى الداخل أو فى أوكرانيا ، أو العودة إلى منازلهم ، أو الالتحاق بقائدهم فى “بيلاروسيا” ، مع إعفاء “بريجوزين” وشركته من الملاحقات القضائية ، وبما يوحى فى الحقيقة لا على خشبة المسرح ، أن “بوتين” نفذ تصورا مسبقا لإعادة توزيع خرائط النفوذ ، ربما من دون توجيه الشكر “المخابراتى” المعتاد للأعداء الأغبياء فى عواصم الغرب.
[email protected]