مقالات كبار الكتاب

دكتور الخشت يكتب.. المقال الثالث عن حقيقة “كيد النساء” في القرآن الكريم

ضد التصور الاسطوري للمرأة (16)

د. محمد عثمان الخشت … أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة

وإجابة على أسئلة عديدة، منها:
** في عصر يوسف عليه السلام: هل المجتمع المصري كان كله شرا مطلقا كما يصور البعض، وهل كان حكامه أشرارا؟
هل تآمرت نساء المدينة كلهن ضد يوسف؟
** هل كيد أخوة يوسف قصة انتهت من التاريخ أم تيمة تتكرر في كل العصور بين بعض الأخوة في أشكال وسيناريوهات متنوعة، مثلما تتكرر قصة قابيل وهابيل في كل العصور بأشكال وسيناريوهات متنوعة، تارة بالمواجهة المباشرة، وتارة بالكيد العظيم؟

نص المقال:
“في إطار إعادة بناء مفهوم “الكيد”، وتخليص فهمنا للقرآن الكريم من الموروثات الاجتماعية، وتحرير عقولنا من التصورات الأسطورية للمرأة والرجل، وبعد أن تم إثبات أن وصف النساء “كنوع” بالكيد العظيم ليس وصفا إلهيا، بل هو وصف بشري من ذلك الشاهد من أهلها، لا تزال أمامنا عدة وقفات لاكتمال تحرير المفهوم، على النحو التالي:
1. مما يؤكد أن النساء والرجال مشتركان في القدرة على الكيد بكل أنواعه، ارجع معي إلى أول سورة يوسف، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ. إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ. قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف: 3 -5).

انظر إلى قول يعقوب عليه السلام: (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، نسب فيه يعقوب الكيد إلى أخوته وهم ذكور. كما توقع يعقوب خطتهم في الكيد ليوسف وخداع أبيهم؛ لكنهم على الرغم من ذلك استطاعوا خداع أبيهم بكيد عظيم ليوسف. مما يدل على أن الخطط الكيدية العظيمة ليست قاصرة على النساء. ومن الملفت أن أخوة يوسف اتهموا أباهم النبي بأنه في ضلال مبين على الرغم من أنهم يعلمون أنه نبي مرسل! وبالفعل قاموا بخداعه، وأخذوا يوسف، وكادوا له كيدا عظيما دنيئا على النحو التالي: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ. قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ. قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ)، ([يوسف: 8 – 14). وكيد أخوة يوسف لأخيهم قصة تتكرر في كل العصور بين بعض الأخوة في أشكال وسيناريوهات متنوعة، مثلما تتكرر قصة قابيل وهابيل في كل العصور بأشكال وسيناريوهات متنوعة، تارة بالمواجهة المباشرة، وتارة بالكيد العظيم.

2. بعض المفسرين يبحثون عن تبرير لحل التناقض العقلي والأخلاقي الذي وقع فيه أخوة يوسف فيما يتعلق بإيمانهم بالنبوة، يقول الفخر الرازي: السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِكَوْنِهِ رَسُولًا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، فَكَيْفَ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ، وَكَيْفَ زَيَّفُوا طَرِيقَتَهُ وَطَعَنُوا فِي فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ لِنُبُوَّتِهِ فَهَذَا يُوجِبُ كُفْرَهُمْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِنُبُوَّةِ أَبِيهِمْ مُقِرِّينَ بِكَوْنِهِ رَسُولًا حَقًّا مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُمْ لَعَلَّهُمْ جَوَّزُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَفْعَلُوا أَفْعَالًا مَخْصُوصَةً بِمُجَرَّدِ الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ إِنَّ اجْتِهَادَهُمْ أَدَّى إِلَى تَخْطِئَةِ أَبِيهِمْ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ…”، (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير: 18/ 423).

ويواصل الفخر الرازي عملية التبرير للإشكاليات الأخرى الإيمانية التي طرحت نفسها بسبب موقف أخوة يوسف معه ومع أبيهم، فيقول: “السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ نَسَبُوا أَبَاهُمْ إِلَى الضَّلَالِ الْمُبِينِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ وَالطَّعْنِ، وَمَنْ بَالَغَ فِي الطَّعْنِ فِي الرَّسُولِ كَفَرَ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الطَّاعِنُ وَلَدًا فَإِنَّ حَقَّ الْأُبُوَّةِ يُوجِبُ مَزِيدَ التَّعْظِيمِ. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الضَّلَالُ عَنْ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا لَا الْبُعْدُ عَنْ طَرِيقِ الرُّشْدِ وَالصَّوَابِ. السُّؤَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا مَحْضُ الْحَسَدِ، وَالْحَسَدُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَقْدَمُوا عَلَى الْكَذِبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحَسَدِ، وَعَلَى تَضْيِيعِ ذَلِكَ الْأَخِ الصَّالِحِ وَإِلْقَائِهِ فِي ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ وَتَبْعِيدِهِ عَنِ الْأَبِ الْمُشْفِقِ، وَأَلْقَوْا أَبَاهُمْ فِي الْحُزْنِ الدَّائِمِ وَالْأَسَفِ الْعَظِيمِ، وَأَقْدَمُوا عَلَى الْكَذِبِ فَمَا بَقِيَتْ خَصْلَةٌ مَذْمُومَةٌ وَلَا طَرِيقَةٌ فِي الشَّرِّ وَالْفَسَادِ إِلَّا وَقَدْ أَتَوْا بِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي الْعِصْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَالْجَوَابُ: الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ، إِلَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي وَقْتِ حُصُولِ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا قَبْلَهَا فَذَلِكَ غير واجب واللَّه أعلم” (مفاتيح الغيب: 18/ 424).

لقد وقع هؤلاء الأخوة الذكور في خصال بالغة السوء، ومنها الكيد الشرير، والحسد الهدام البغيض، والخيانة، والكذب، والإضرار بأبيهم وأخيهم ضررا بالغا، واتهام أبيهم بالضلال على الرغم من كونه نبيا. ويعد موقفهم جامعا لمفاسد الأخوة الأشرار في كل العصور.

والشاهد من كل ذلك أن الكيد الشرير ليس مخصوصا بالنساء، بل يقع فيه أيضا الذكور، ويقع فيه فئات بشرية كان من المفترض فيها التنزه عن ذلك!

3- لم يكن المجتمع المصري كله شرا مطلقا كما يصور البعض، ولم يكن كل حكامه أشرارا، بل كان منهم المؤمنون والصادقون وأهل العدل وشهادة الحق، وبه الكافرون والكاذبون والظالمون وشهاد الزور، مثلما هو في كل المجتمعات الإنسانية في كل العصور. بل كان في المجتمع المصري من يشهد بالحق حتى ولو على أهله. وفي هذا الموقف من القصة تحديدا، قد شهد في الموضوع وحكم بالعدل شاهد من أهلها دون أن ينحاز إليها، (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ).

4- تورطت بعض نساء المدينة وليس كلهن، (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ). ولذا من الخطأ تعميم التورط على نساء المدينة كلهن أو على نساء مصر كلهن.

5- لم يمنع تورط بعص النساء في الأمر، من قولهن الحق وشهادتهن لصالحه، (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ)، (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [يوسف: 51، 52]. لاحظ أيضا أن امرأة العزيز تشهد له في اللحظة الحاسمة.

أرجو بعد هذا الإيضاح، أن نتجنب الوقوع في خطأ التعميم الذي لا يزال خطأ يسيطر على قطاعات كبيرة من البشر في عصرنا، حيث يحكمون بسرعة ومغالطة على الكل بالاستناد إلى الجزء! كما أرجو أن نتبين الأهمية القصوى لتفسير القرآن بالقرآن كضابط له الأولوية في فهم مقاصد الوحي، من أجل تأسيس خطاب ديني جديد”.

يارب
#القرآن_السنة_الصحيحة
#الخطاب_الديني_الجديد
#جامعة_القاهرة
بواسطة د. محمد الخشت .. نشر في جريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى