دكتور صبري الغياتي يكتب .. اللغة العربية في يومها العالمي ..الحلقة الثانية : بين “اللغة والقرآن”
بقم دكتور صبري الغياتي
هناك نوع من جدلية العلاقة أو إن شئت فقل: حميمية العلاقة بين اللغة العربية والقرآن الكريم، فقد أعطت اللغة العربية للقرآن الكريم المادة الأولية التي شكل القرآن الكريم منها بناءه المعجز، وكذا أعطى القرآن الكريم للغة (الخلود) وكفى به عطاء، على أن اللغة قدمت للقرآن الكريم مادة خصيبة مطواعا تتسع مع مرادات القرآن حيثما أرادت، وتضطلع بمعانيه وتتسع لغاياته، وكأنها تدرك أن القدر قد اختارها لأعظم مهمة، وهي أن تنهض بمعاني كتاب الله تعالى، وأن تفي بمتطلبات بلاغته وأدائه الحكيم، فما ادخرت جهدا ولم تتوان لحظة في خدمة معاني القرآن الكريم، وقامت بالمهمة خير قيام، وقدمت القرآن الكريم بصورة مشرقة تعجز اللغات جميعها مشتركة أن تقدمها للقرآن.
لقد قدمت اللغة العربية للقرآن في كل معنى ما يليق به من الألفاظ، وقدمت له كذلك لكل دقيقة ما يناسبها من صيغ وأبنية تدل على المعنى أدق دلالة وأتمها، وكيف لا وهي اللغة الغنية بجزورها وموادها وصيغها وأبنيتها، بل هي لغة تدل بمواقع الكلمات في جملها بين التقديم والتأخير، والذكر والحذف، والتعريف والتنكير، ناهيك عن أساليبها المتعددة في التعبير عن المعنى الواحد بصور متعددة في وضوح الدلالة مما هو معروف في علم البلاغة العربية بالبيان أو التصوير البياني، بل إن اللغة من طواعيتها جعلت كلماتها وحروفها تشارك في إبراز الصورة المراد رسمها للمتلقي، كما أن حروف اللغة ذاتها لها نوع دلالة بصفاتها من تفخيم وترقيق وجهر وهمس وغير ذلك من صفات الحروف المعلومة والمقرورة في علم أصوات العربية، فمثلا كلمة (الصلاة) في قول الحق تبارك وتعالى: (وأمر أهلك بالصلاة) قُرأت بالتفخيم والترقيق، وجهان في القراءات المتواترة، قلنا: فكانت قراءة التفخيم إشارة إلى مكانة الصلاة في الإسلام ومقامها من الدين وأنها عماد الدين إلى غير ذلك من المعاني التي تتصل بأهمية الصلاة ومكانتها من الإسلام، وأما قراءة الترقيق، قلنا: ففيها إشارة إلى وظيفة الصلاة مع النفس البشرية وأثرها في القلب، فإن الصلاة ترقق القلب وتزكي النفس، وتحدث الوجل في القلب فتزكو النفس وتصفو من كدرها وتتخلص من شوائبها، هكذا تسخو اللغة العربية فتصبح لغة معطاء للقرآن الكريم، تقدم لكل معنى وكل لمحة وكل نبأة ما يناسبها ليس فقط من الألفاظ والصيغ، ولكن أيضا بما تحويه اللغة من عطاء غير محدود لكتاب عطاؤه غير محدود أيضا، والأمثلة على ذلك كثيرة في طول القرآن الكريم، وليس المقام مقام استقصاء وتتبع، فلذلك موطنه من الدراسة، على أن ذلك إذا كان يحسب للغة العربية، فإنه أيضا يحسب للقرآن الكريم الذي فجر طاقات العطاء والإعجاز في هذه اللغة الشريفة، لقد نزل القرآن الكريم على هذه اللغة فأعاد ترتيبها ونسقها، لقد أحيا القرآن الكريم في اللغة طاقات لم يستطع العرب مع مكانتهم في الفصاحة وريادتهم في الكلام أن يصلوا إليها، لقد نظر العرب إلى لغتهم التي عاشوا لها وبها والتي ارتضعوها مع تفتق أذهانهم وتفتح أعينهم على الدنيا، والتي أعطتهم قيادها فصاروا أفصح الناس لسانا وأوفاهم بيانا، نظر العرب إلى لغة القرآن الكريم، فإذا بهم يجدون هذه اللغة وكأنما خلقت خلقا جديدا، أو كأنما صيغت صياغة لم يعهدوا مثلها، نظر العرب إلى لغتهم وكأنهم يقرؤونها لأول مرة، فقد أصبحت اللغة لغة إعجازية لا يستطيعون الوصول إلى هذه الدرجة مع تمكنهم من ناصية اللغة، نعم. فلقد كانت اللغة تحوي طاقات إعجازية لم يستطع العرب أن يصلوا إليها، لقد طاوعتهم اللغة، وأفاضت عليهم العطاء، فأخذو منها ولكن على قدر جهدهم البشري وعلى قدر طاقتهم البشرية، أما القرآن الكريم، فقد فجر تلك الطاقات الإعجازية الكامنة في هذه اللغة الشريفة، وتحدى ملوك الفصاحة أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بأقصر سورة منه، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
إذن اللغة العربية قدمت للقرآن الكريم المادة الخصبة التي شكلت بناءه اللغوي والبلاغي المعجز، فماذا قدم القرآن الكريم للغة العربية؟
لقد قدم القرآن الكريم للغة العربية ما لا يمكن أن يُقدَّم للغة غيرها على طول امتداد التاريخ البشري واللغوي على حد سواء، لقد أعطى القرآن الكريم للغة العربية صفة الخلود، فاللغة العربية وعاء القرآن الكريم، والحق تعالى قد تكفل بحفظ هذا الكتاب الخالد ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ومن طريق حفظ القرآن الكريم أن يُحفظ الوعاء الذي يحويه، ومن هنا فنحن نعلم أن العرب لم يكونوا يعرفون القراءة والكتابة، ولم يكن لهم ديوان يرجعون إليه، بل كانوا يعتمدون على الحفظ وقوة الذاكرة، ولكن الحفظ وقوة الذاكرة إذا توفرا للعرب، فقد لا يتوفران لغير العرب ممن سيدخلون الإسلام بعد، والإسلام رسالة الله للعالمين، فمن هنا كانت الكتابة هي أول خطوة فعلية نحو حفظ هذه اللغة، لقد أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بكتابة الوحي واتخذ لذلك كتبة متخصصين، فكانت كتابة القرآن الكريم هي أول عملية جمع وتدوين لهذه اللغة الشريفة، ثم ماذا بعد؟ بعد ذلك تم جمع السنة، وبدأ العرب يعرفون الكتابة والصحف وأقبلوا على تعلم الكتابة والقراءة، ومن هنا بدأ عصر جديد في تاريخ هذه اللغة وهو عصر التدوين، بدأ العرب المسلمون يجمعون اللغة من بطون القبائل العربية ومن البادية، وبدأت حركة علمية دائبة لا تنقطع، وهذا كله من العوامل التي استجدت في تاريخ العرب وتاريخ اللغة العربية، والتي كانت في الحقيقة كلها عوامل للحفاظ على اللغة العربية والهوية العربية على حد سواء، فيا ليت العرب يدركون تلك الحقائق ويقفون يدا واحدة ضد نوازع التغريب، ويدركون أن الحفاظ على اللغة العربية حفظ للقرآن الكريم وحفاظ على الهوية العربية ضد عوامل أو معاول الهدم والتغريب.
دكتور صبري الغياتي مدير مكتب معالي الوزير بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية








