بقلم عبدالحليم قنديل
لا أحد عاقل يتوقع أن تتوقف نيران عدوان الاحتلال ، ولا أن يعود كيان الاحتلال إلى حرب الإبادة على النحو الذى كانت عليه فى المدى القريب العاجل ، فبعد نحو عام على اتفاق وقف إطلاق النار على جبهة لبنان ، بلغ عدد الاختراقات والانتهاكات “الإسرائيلية” نحو خمسة آلاف مرة ، ارتقى فيها أكثر من 600 شهيد لبنانى أغلبهم من المدنيين ، وفى ثلاثة أسابيع تلت إعلان وقف إطلاق النار فى “غزة” ، ارتقى أكثر من مئتى شهيد فلسطينى فى غارات “إسرائيلية” ، تضاف إلى ربع مليون فلسطينى بين شهيد وجريح ومفقود فى حرب إبادة تعدت أيامها السنتين ، فوق تدمير أكثر من 85% من مبانى ومنشآت “غزة” ، ولم يتوقف التدمير يوما واحدا بعد إعلان وقف إطلاق النار طبقا لخطة الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” ، وفيما تبدو الانتهاكات “الإسرائيلية” فى لبنان متفقا عليها بين “بنيامين نتنياهو” وإدارة “ترامب” ، وبحسب ملحق تعهدات من واشنطن إلى “تل أبيب” ، يتيح لكيان الاحتلال حرية التصرف الحربى فى لبنان ، وفقا لما يدعيه من مخاطر أو تحركات لعناصر “حزب الله” ، لكن الأمر يبدو مختلفا قليلا على جبهة “غزة” حتى الآن ، حيث تعلن إدارة “ترامب” حرصها على استمرار سريان وقف الحرب ، ولا يخلو الأمر من تلاسن معلن أحيانا بين حكومة “إسرائيل” فى واشنطن وتابعتها الصغرى فى “تل أبيب” ، وربما يستمر التضاغط الجارى إلى حين ، قد لا تتلاشى معه احتمالات العودة لحرب الإبادة فى “غزة” فيما بعد ، فى حين تتصاعد نبرة التهديد “الإسرائيلى” الأمريكى بالعودة إلى حرب شاملة فى لبنان .
والسبب الجوهرى لاحتمالات تجدد الحرب الشاملة على الجبهتين ولو بعد حين ، أن العدو الأمريكى “الإسرائيلى” لم يحسم بعد الحرب لصالحه ، ولم ينجح فى القضاء لا على “حزب الله” ولا على حركة “حماس” وأخواتها ، ففى حرب الإبادة المفتوحة عبر 735 يوما ، ورغم الدمار المرعب للحجر والبشر والشجر ، لم تفنى “حماس” وأخواتها من فصائل المقاومة ، وبعد خمس دقائق لا غير من جلاء الاحتلال عن النصف الغربى من قطاع “غزة” ، انتشرت الكوادر المسلحة من “حماس” كأنها جاءت من تحت الأرض ، ودخلت فى صدامات دموية عنيفة مع مجموعات من عملاء الاحتلال ، وهو ما أفزع حكومة “نتنياهو” وكشف خيبة جيش الاحتلال ، الذى استخدم فى الحرب الهمجية أكثر من مئتى ألف طن من المتفجرات ، تزيد أضعافا على إجمالى المتفجرات التى جرى استخدامها فى الحرب العالمية الثانية ، وتعادل أضعاف القوة التدميرية للقنابل النووية التى ألقيت على مدينتى “هيروشيما” و”نجازاكى” ، وجرى قتل عشرات الآلاف من مقاتلى المقاومة ، فى مقابل قتل وجرح نحو العشرة آلاف ضابط وجندى “إسرائيلى” ، ورغم الإنهاك والتجريف الذى أصاب قدرات المقاومة ، فإن المفاجأة كانت فى تحذيرات واعترافات قادة كيان الاحتلال ، الذين قدروا عدد مقاتلى “حماس” بعد الحرب بما يزيد على عشرين ألفا ، ظلوا يحتفظون إلى اليوم بأكثر من 60% من الأنفاق الحربية سليمة ، وبالمقدرة المتزايدة على التجنيد والتصنيع الذاتى للأسلحة ، وقيل عند “الإسرائيليين” ما هو أكثر فى تقييم القدرات الحالية لحزب الله ، التى زعموا من قبل ، أنهم دمروها تماما مع تفجيرات “البيجر” واغتيال قادة الصفين الأول والثانى ، وعلى رأسهم القائد التاريخى الشهيد “السيد حسن نصر الله” ، ونشرت العديد من التقارير الغربية ، قدرت أن “حزب الله” أكمل رحلة التعافى العسكرى خلال عام ، وأن قوة الحزب الصاروخية عادت إلى ما يقارب ما كانت عليه قبل الحرب ، رغم الانقطاع المعلن لخط الإمداد عبر سوريا .
ولا تعلن قيادة “حزب الله” نفسها عن تفاصيل عسكرية ، ولا عن مناورات ولا تدريبات ، وهو سلوك قد ينبئ بما يجرى داخل القطاع العسكرى للحزب ، الذى انتقل على ما يبدو للعمل السرى تماما ، بعد التجارب المريرة للاختراقات الأمنية السابقة ، مع استشهاد أغلب القادة العسكريين الكبار ، وصعود جيل جديد إلى سدة القيادة ، لا تتوافر لدى العدو أى معلومات مفيدة عنه ، فقد جرى على ما يبدو فصلا تاما بين ماهو معلن وما هو محجوب تماما عن الأضواء ، واستعادت “المقاومة الإسلامية فى لبنان” سريتها الأولى ، وبأجيال شابة تتقن فنون التكنولوجيا الحربية الأحدث ، وتعرف مخاطر التكنولوجيا فى مجال الاتصالات بالذات ، فى حين تكتفى القيادة العامة للحزب بتقديم انطباعات عامة ، والانشغال بالسياسات العامة فى الساحة اللبنانية المضطربة ، وبتكريس نفوذ الحزب السياسى والانتخابى ، ودعم صمود البيئة الحاضنة للمقاومة ، وهو ما يبدو أن قيادة “حماس” تفعل مثله ، ولدى “حماس” تراث أقدم من الفصل بين الجناح السياسى والجناح العسكرى “كتائب عز الدين القسام” ، وقد جرى الاتجاه للفصل التام قبل أكثر من ثلاثين سنة ، ربما باستثناء فترة قيادة الشهيد العبقرى “يحيى السنوار” ، الذى صعد دوره كهمزة وصل بين العمل السياسى والعمل العسكرى ، مع تغليب أولوية العمل المسلح ، وقيادة جيل من الاستشهاديين العارفين ، لا يزالون على ما يبدو يواصلون الإبداع فى التجديد القتالى ، وفى ابتكار أحزمة من الأمان والسرية والإحلال المتسارع للقيادات ، وبما يجعل مهمة اكتشاف القيادات الجديدة عصية على أجهزة الأمن والمخابرات “الإسرائيلية” ، فلا تزال التقارير “الإسرائيلية” تدور حول اسمى القائدين “عز الدين الحداد” و “رائد سعد” ، رغم أن كيان الاحتلال إدعى اغتياله للأخير مرات ، وقد يكون القائد الحقيقى اسما آخر لا يعرفه أحد .
وتبدو مهمة “حزب الله” فى الترميم وإعادة البناء العسكرى أيسر قياسا لوضع “حماس” وأخواتها ، فالحدود اللبنانية مع سوريا متداخلة مثقوبة بالثغرات ، وقطع الطريق السورى للإمداد لا يبدو تاما ، وبوسع “حزب الله” أن يجد دائما طرقا سالكة فوق الأرض وتحتها ، ورفد قوته العسكرية بمدد لا ينفد من بيئته الاجتماعية المتحفزة للأخذ بالثأر ، والمؤمنة فى غالبها الأعم بخط الشهيد “نصر الله” ، والملتزمة بعقيدة المقاومة الصابرة على الابتلاءات ، إضافة للدعم الإيرانى المتدفق رغم العوائق ، ونقل إيران لتقنيات صناعة الصواريخ الأدق إلى لبنان ، ووجود كم هائل من الورش والمصانع فى أنفاق هائلة ممتدة جنوب نهر “الليطانى” وشماله ، وكل تلك مزايا كبرى ، قد لا تكون متاحة فى حالة “كتائب القسام” وأخواتها ، فقطاع “غزة” محدود المساحة ، ومحاصر من كل اتجاه ، ويكاد يستحيل تلقى مدد عسكرى من خارج “غزة”، اللهم إلا من خلال شبكات تهريب فائقة السرية ، فى حين يبدو الاعتماد الأعظم على صناعة السلاح المطلوب ذاتيا ، وتطوير قذائف “الياسين” وبنادق “الغول” والعبوات الناسفة والصواريخ محدودة المدى والمحمولة على الكتف وخبرات العمل فى الأنفاق ، التى خلقت “غزة أخرى” تحت الأراضى المنظورة ، وكلها امكانيات قد تسمح بنمو متصل لقوة “حماس” العسكرية ، وإن كان المدد الأعظم لا يزال يأتى من حاضنة المقاومة المستنفرة ، ومن جيل جديد من المقاومين ، علمته المحنة أن الموت أقرب إليه من حبل الوريد ، وأن اختيار الاستشهاد أفضل عند الله والناس من الذهاب كضحية تحت الردم ، وأن اختيار المقاومة صار “فرض عين” لا “فرض كفاية” ، فلم تعد المقاومة حكرا لفصائل أيديولوجية ، بل صارت دينا لشعب لقى من الأهوال ما لم يصادفه شعب آخر بطول التاريخ وعرضه .
وفى الوقائع الجارية على الجبهتين ، يدرك الأمريكيون و”الإسرائيليون” بالتجربة ، أن ليس بوسعهم القضاء نهائيا على “حزب الله” وعلى “حماس” وأخواتها ، ويسعون لتوريط أطراف أخرى فى نزع سلاح حركات المقاومة ، وعلى نحو ما يوحى به تقاطر وفود الضغط إلى لبنان ، والسعى لتوريط الجيش اللبنانى فى مهمة نزع سلاح “حزب الله” ، وتلك مهمة تبدو مستحيلة التحقق ، ليس فقط لأن حزب الله يرفض نزع سلاحه ، بل لأن “حزب الله” ـ عمليا ـ هو القوة العسكرية الأكبر ، والأكثر تفوقا فى التنظيم والقاعدة الاجتماعية المتسعة ، وأى شروع فى صدام يهدد بإشعال حرب أهلية ، لن يكون الفائزون فيها من عبيد “إسرائيل” اللبنانيين ، الذين يفضلون أن تقوم “إسرائيل” بالمهمة ، بينما تفضل “إسرائيل” استمرار الوضع الراهن إلى حين ، وأن تسعى لاصطياد المقاومين بغارات الجو والطائرات المسيرة ، وعبر بنوك أهداف متقادمة ، لا تتيح تحقيق الأهداف مع عمى استخبارى ظاهر ، ولا تريد “إسرائيل” رغم تضاعف وتيرة تهديداتها ، أن تعجل بحرب برية شاملة لا تثق فى كسبها ، بينما تعول “إسرائيل” وأمريكا على اختيار آخر على جبهة “غزة” ، يحقق بإدعاء السلام ما لم يتحقق بحرب الإبادة ، ويورط قوات عربية وإسلامية فى حرب لنزع سلاح “حماس” وأخواتها ، وهى مهمة تبدو مستحيلة لما يفترض أنها قوات لحفظ سلام ، لا للقيام بأعمال حربية ، تحفظ أمن كيان الاحتلال وتصغى لأوامره وأحلامه .
[email protected]







