بقلم د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة
منذ فجر التاريخ ودائما ما كانت قوة الدول ترتبط بقدرتها على إنتاج المعرفة وتوظيفها في خدمة الوطن والإنسانية بصفة عامة. وفي العصر الحديث يقوم التعليم العالي والبحث العلمي بهذه المهام في كل دولة وبالتالي يشكلان معا المحرك الأساسي لأي نهضة اقتصادية واجتماعية. وتؤكد كل الدراسات ذات الصلة بأن العديد من دول العالم لم تتقدم بما تملكه من موارد طبيعية فقط، بل تقدمت بفضل الاستثمار في عقول أبنائها وتوجيه هذه العقول نحو الابتكار وحل المشكلات من خلال منظومات قوية للتعليم والبحث العلمي.
وتشهد العديد من تجارب الدول في العصر الحديث أن الاستثمار في التعليم والبحث العلمي أدى إلى انتقال الدول إلى مصاف الدول المتقدمة في كافة المجالات. تجربة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال هي خير شاهد على هذا، فقد خرجت اليابان من الحرب مدمَّرة بالكامل، واقتصادها منهار، لكنّها اتخذت قرارًا استراتيجيًا بالاستثمار في التعليم والبحث العلمي مع التركيز على مجالات هامة وكان أهمها مجال ضبط الجودة الإحصائية. ونتيجة لهذا الاهتمام، تحول المنتج الياباني خلال عقود قليلة إلى المنافس الأول للمنتجات الأمريكية والأوروبية، بل وتفوّق عليها في بعض الصناعات، حتى أصبحت عبارة “صنع في اليابان” تعني الجودة العالية. فالاهتمام بتفعيل مخرجات البحث العلمي في مجال ضبط الجودة كان السبب المباشر في انطلاق اليابان نحو التقدم وتحقيق طفرة اقتصادية غير مسبوقة، وتحقق ذلك من خلال استقدام عدد كبير من العلماء من دول العالم وخاصة من الولايات المتحدة إلى اليابان. ووجد هؤلاء العلماء ترحيبًا حافلاً من قبل اليابانيين واعتناق أفكارهم ونظرياتهم من قبل المسئولين وطلاب العلم وقتها، وهو ما أدى إلى ازدهار الصناعة اليابانية في وقت قياسي قصير لم يتجاوز عشرين عامًا من نهاية الحرب العالمية الثانية؛ وغزت المنتجات اليابانية العالم أجمع بجودتها المرتفعة.
ولا تتوقف الأمثلة عند نموذج دولة اليابان، فنموذج كوريا الجنوبية كان أيضا ملهماً، فقد كانت كوريا الجنوبية في ستينيات القرن الماضي من أفقر دول العالم وتعاني من تبعات الصراع السياسي بين معسكر الشرق بقيادة الاتحاد السوفيتي والغرب بقيادة الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتقسيم كوريا إلى دولتين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. وفي نهاية الستينات تم وضع خطة شاملة للربط بين البحث العلمي والصناعة، فتم إنشاء جامعات بحثية متخصصة في مجالات محددة، وهي تجربة متميزة جدا تؤدي إلى وجود مراكز للتميز العلمي والبحثي في هذه المجالات. هذه السياسات أدت في النهاية إلى تقدم كوريا الجنوبية في قطاعات عالمية هامة مثل صناعة الإلكترونيات والسيارات وتكنولوجيا الاتصالات.
وهناك أيضا نموذج سنغافورة، التي لم تملك طيلة تاريخها أي موارد طبيعية يمكن أن تقوم عليها صناعات تنافسية، ولكنها اعتمدت على التعليم والبحث العلمي الموجه نحو احتياجات الدولة، فتحولت من جزيرة فقيرة إلى واحدة من أهم المراكز الاقتصادية والتكنولوجية في العالم.
هذه التجارب وغيرها من التجارب العالمية تؤكد أن الاستثمار في التعليم والبحث العلمي هو أهم وسيلة استراتيجية لانتقال الدول إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى. والعالم الأن يشهد ثورة صناعية رابعة تعتمد على التكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي، ويخطو بخطوات ثابتة نحو الثورة الصناعية الخامسة، التي تعتمد على تطبيقات متقدمة للذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والعلوم البيولوجية، والطاقة النظيفة، وتدمج بين الإنسان والآلة في عملية الإنتاج والمعرفة. ولن تستطيع أي دولة أن تنافس في هذه المجالات إلا بالاستثمار في التعليم والبحث العلمي. هذا الاستثمار ضروري أيضا في إعداد أجيال مؤهلة لوظائف المستقبل، وكذلك تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد، وبناء اقتصاد معرفي يقوم على الابتكار والإبداع. فدروس التاريخ وتجارب الدول تثبت أن الجهود الحقيقية لتحقيق التنمية المستدامة لن تؤتي ثمارها إلا من خلال تعليم وبحث علمي متقدم.