
د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة
في المقال السابق، تم استعراض ثلاث من أبرز الممارسات المؤسسية التي أسهمت بفاعلية في دعم وترسيخ مبادئ الحوكمة داخل مؤسسات التعليم العالي المصرية منذ عام 2014 وهي الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية ودمج أدوات الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، إنشاء مجموعة من الجامعات الأهلية التابعة للجامعات الحكومية، وتدشين مبادرة جريس لتمكين وتعليم الشباب فيما يخص مفاهيم الحوكمة ومكافحة الفساد. وفي هذا الجزء الثاني، نستكمل الحديث حول مجموعة من الممارسات الأخرى التي تعكس تحول منهجي للجامعات المصرية نحو تبني مبادىء الحوكمة، وتعكس بوضوح التفاعل الإيجابي للمؤسسات الجامعية مع توجهات القيادة السياسية الهادفة إلى بناء إدارة جامعية حديثة، تؤهلها في المستقبل لأن تكون جامعات ضمن أفضل 100 جامعة حول العالم.
الممارسة الرابعة كانت في تأسيس شركات جامعية في إطار قانون حوافز العلوم والتكنولوجيا والابتكار، وهي من أبرز الممارسات التي رسخت مفاهيم الحوكمة على مستوى الجامعات المصرية، حيث قامت بعض الجامعات المصرية بتأسيس كيانات اقتصادية مستقلة من خلال شركات مملوكة لها بالكامل، وذلك في ضوء ما أتاحه قانون حوافز العلوم والتكنولوجيا والابتكار رقم 23 لسنة 2018. وقد جاءت هذه الخطوة لربط الجامعة بمخرجاتها البحثية والعلمية، حيث أصبح بالإمكان استثمار هذه المخرجات اقتصاديًا من خلال شركات مملوكة للجامعات. وتجدر الإشارة إلى أن جامعة القاهرة هي أحدث الجامعات الحكومية التي أسست شركة باسمها تحت عنوان: شركة جامعة القاهرة لإدارة واستثمار الأصول المعنوية، والتي أعلن عنها الأستاذ الدكتور محمد سامي عبد الصادق فور توليه منصب رئيس الجامعة. وقد مثّل هذا التأسيس سابقة تاريخية في جامعة القاهرة، حيث كانت هذه هي المرة الأولى التي تنشئ فيها الجامعة شركة تحمل اسمها، بغرض إدارة واستثمار ملكيتها الفكرية والأصول غير الملموسة بطريقة تعزز من عوائد البحث العلمي والابتكار.
وبصفة عامة، كانت الجامعة الأمريكية بالقاهرة سبّاقة في هذا المجال، حيث أنشأت في عام 2013 شركة D-Kimia، وهي شركة متخصصة في التكنولوجيا الصناعية المتقدمة في مجال التحاليل الطبية، ثم تلتها بإنشاء شركة Suitera التي تعمل في مجال تصميم أشباه الموصلات. وقد تبعتها في ذلك جامعات حكومية أخرى مثل الإسكندرية، المنصورة، وحلوان، مستفيدة من الإطار التشريعي الجديد الذي يتيح هذا النوع من الاستثمار المعرفي.
هذه الشركات تعتبر أداة استراتيجية لتحويل مخرجات البحوث العلمية إلى منتجات وخدمات ذات قيمة اقتصادية، ولتمكين أعضاء هيئة التدريس والباحثين من تحويل أفكارهم الابتكارية إلى مشروعات قابلة للتسويق، مع الحفاظ على حقوقهم الفكرية وبناء شراكات فاعلة مع قطاعات الصناعة والتكنولوجيا، ضمن بيئة جامعية محفّزة على الابتكار وتتسم بالكفاءة والاستدامة، مما يساهم في ترسيخ مبادئ الحوكمة الجامعية.
أما الممارسة الخامسة فكانت في تطوير عدة جامعات مصرية لسياسات حماية الملكية الفكرية، وهي ممارسة حيوية هامة تتقاطع مع منظومة الحوكمة ، ومن ضمن هذه الجامعات عين شمس، حلوان، كفر الشيخ، وكان أبرزها سياسة جامعة القاهرة في هذا الشأن. فقد أطلقت الجامعة وثيقة بعنوان “سياسة الملكية الفكرية”، تضمنت تنظيمًا دقيقًا للعديد من الجوانب المرتبطة بحماية نتاج العقل الجامعي، ومنها ملكية الابتكارات الناتجة عن مشروعات بحثية ممولة، حقوق براءات الاختراع الخاصة بأعضاء هيئة التدريس والعاملين، العلامات التجارية التي يتم تطويرها داخل الجامعة، آليات النشر الإلكتروني والمنصات الرقمية، الحقوق المتعلقة بمراكز الإبداع، حاضنات الأعمال، ورعاية الموهوبين، ضوابط الاقتباس والترجمة والاستخدام العادل، تنظيم استفادة ذوي الهمم من المصنفات التعليمية.
وتُعد هذه السياسات نقلة نوعية في إدارة الابتكار داخل الجامعات، وتدعم بيئة قانونية ومؤسسية تحفظ حقوق كافة الأطراف وتسهم في خلق مناخ محفّز للبحث والتطوير، بما ينسجم مع متطلبات الحوكمة الرشيدة.
أما الممارسة السادسة والأخيرة في هذا المقام فكانت في تطوير البنية التنظيمية للمراجعة الداخلية والحوكمة، حيث قامت كل الجامعات بإنشاء إدارات متخصصة للمراجعة الداخلية والحوكمة ضمن هيكلها التنظيمي، تنفيذًا لقرار رئيس مجلس الوزراء رقم (1146) لسنة 2018، وقرار الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة رقم (54) لسنة 2020. وتهدف هذه الإدارات إلى مراقبة مدى التزام مؤسساتها التعليمية والبحثية والإدارية بمبادئ مثل: النزاهة، الشفافية، المساءلة، سيادة القانون، المساواة، والمشاركة.
وتعمل هذه الإدارات من خلال أدوات ومنهجيات واضحة لتقييم الأداء المؤسسي وضمان جودة الخدمات الجامعية، ومتابعة تنفيذ السياسات بما يضمن عدالة التعامل مع كافة الفئات المتعاملة مع الجامعة. كما تسهم في ترسيخ ثقافة المساءلة والمحاسبة، وتحسين الكفاءة الإدارية، وتعزيز الثقة المجتمعية في أداء المؤسسات الجامعية.
إن هذه الممارسات التي تناولناها على مدار جزئين تعكس حجم التحول النوعي في إدارة مؤسسات التعليم العالي المصرية منذ 2014، وتؤكد استجابتها الواعية لتوجهات القيادة السياسية نحو ترسيخ مفاهيم الحوكمة في مختلف قطاعات الدولة، وعلى رأسها قطاع التعليم العالي. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات ينبغي مواجهتها بجدية خلال الفترة القادمة، لضمان استمرارية نجاح هذه التجربة وتحقيق أقصى استفادة منها. ومن أبرز هذه التحديات ضعف البنية التحتية الرقمية في عدد من الجامعات، ما قد يشكل عائقًا أمام تفعيل نظم الحوكمة الحديثة بها، ويبطئ من وتيرة التحول نحو الإدارة الذكية للجامعة.
في المقال القادم، سنتعرض إلى هذه التحديات بالوصف والتحليل.