
بقلم لواء دكتور/ سمير فرج
أصبحت الطائرات المسيرة بدون طيار، المعروفة باسم “الدرونز”، هي الشغل الشاغل، حالياً، لكافة مراكز الدراسات الاستراتيجية، حول العالم، سواء التابعة للقوات المسلحة أو غيرها، وصارت هي الموضوع الأجدر بالبحث والدراسة، سواء للتعرف على نشأتها وبداية استخدامها، أو لتحليل آثار استخداماتها في المجالات العسكرية.
ذاع صيت الدرونز، في المجال العسكري، مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية، والتي كان استخدامها قاصراً على عمليات محدودة، حتى الأول من يونيو، الجاري، حين شنت أوكرانيا أخطر عملياتها، باستخدام الدرونز، والتي اطلقت عليها اسم “شبكة العنكبوت”، وتمكنت خلالها من الهجوم على خمس مطارات للقوات الجوية الروسية، بعمق 4000 كيلومتر داخل الأراضي الروسية، وقامت بتدمير وإحداث أعطال في أكثر من 40 طائرة، تمثل أفضل ما تملكه روسيا في “الثالوث النووي”، الجوي والبحري والأرضي، وهي الطائرات المخصصة لحمل القنابل النووية.
قدرت الخسائر الروسية بحوالي 7 مليار دولار، ومان من بين ما خسرته، طائرات قاذفة استراتيجية من طراز “تو-95 إم إس”، و”تو-22 إم 3″، وواحدة على الأقل من طراز “إي-50” لتنسيق العمليات الجوية، كذلك طائرات “توبوليف 160 بلاك جاك”، والتي تُعرف باسم “البجعة البيضاء”.
نفذت أوكرانيا تلك العملية الهجومية باستخدام 117 طائرة مسيرة، تم إدخالها إلى عمق روسيا داخل كبائن خشبية، تشبه المنازل الروسية، محمّلة على شاحنات عملاقة، وما أن اقتربت من المطارات الروسية، حتى انطلقت طائرات الدرونز الأوكرانية لتنفيذ مهمتها وتدمير الطائرات الروسية على الأرض. ورغم امتلاك روسيا لأحدث نظام دفاع جوي، في العالم، مثل “إس-400” و”إس-500″، إلا أنها لم تتمكن من تدمير الدرونز، التي لم يتم رصدها، واكتشافها.
لم تستخدم تلك المسيرات نظام “GPS”، حتى لا يتم اكتشافها، واستبدلته بنظام أكثر تقدماً، يعتمد على الذكاء الاصطناعي، حيث تم تركيب صورة كل طائرة روسية، وهي الهدف، في “عين” الطائرة المسيرة، فتنطلق نحوها، مباشرة، لتدميرها. صُنفت تلك العملية كثان أكبر ضربة عسكرية في التاريخ، بعد عملية تدمير الأسطول الأمريكي، في ميناء بيرل هاربر، ومعركة الطائرات اليابانية، والتي كانت سبباً لدخول أمريكا الحرب العالمية الثانية، لذا أطلق البعض على تلك العملية الأوكرانية “بيرل هاربر 2”.
كان ظهور الطائرة المسيرة لتحل محل الطائرات المقاتلة، التي يقودها طيار مقاتل، يتكلف إعداده مصاريف باهظة، سبباً لتغيير العديد من مفاهيم وأساليب القتال في الحرب الحديثة. فقد أصبحت الدرونز تنفذ جميع مهام الطائرة المقاتلة؛ سواء الاستطلاع، أو الحصول على المعلومات، أو التشويش وإعاقة عمل الرادارات وأجهزة الاتصالات، والأخطر من ذلك هو قدرتها على القيام بالهجوم القتالي. ولعل عملية تصفية قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، باستخدام الطائرات الموجهة بدون طيار، كانت أكبر مثال على نجاح هذا السلاح في تنفيذ مهامه.
تتنوع الطائرات المسيّرة حسب الغرض من استخدامها، وحجمها، ومدى طيرانها، وقدراتها التقنية. من أبرز أنواعها الدرونز الاستطلاعية، وهي مخصصة لجمع المعلومات والتصوير الجوي والمراقبة، وتتميز بخفة الوزن وصغر الحجم، وغالباً ما تُستخدم في مهام التجسس والمراقبة الحدودية. أما الدرونز القتالية، فهي مجهزة بصواريخ أو قنابل دقيقة التوجيه، وتُستخدم لضرب أهداف استراتيجية بدقة عالية، ومن أشهرها الطائرات الأمريكية “ريبر” و”بيرداتور”. وهناك أيضاً الدرونز الانتحارية، والتي تُعرف باسم “الذخيرة المتسكعة”، وهي طائرات صغيرة تحمل شحنة متفجرة، وتُطلق نحو الهدف لتنفجر عند الاصطدام، وقد استخدمت بكثافة في الحرب الأوكرانية.
بالإضافة لذلك، توجد الدرونز الإلكترونية، التي تُستخدم في مهام التشويش على أجهزة الاتصالات والرادارات، وتعتبر من الأسلحة المتقدمة في الحروب السيبرانية. كما ظهرت الدرونز البحرية، التي تُستخدم في استطلاع البحار أو تنفيذ هجمات تحت الماء. أما من حيث الحجم، فهناك مسيّرات صغيرة بحجم كف اليد تُستخدم داخل المدن أو الأماكن المغلقة، وأخرى كبيرة بحجم طائرة خفيفة يمكنها التحليق لساعات طويلة على ارتفاعات عالية. هذا التنوع جعل من الدرونز سلاحاً متعدد الاستخدامات، يتطور باستمرار ليواكب متطلبات الحرب الحديثة، وأساليبها المتغيرة.
وتتميز الدرونز بانخفاض تكاليف تشغيلها، مقارنة بالطائرات الحربية التقليدية، سواء في عدم المخاطرة بالعنصر البشري، وما له من قيمة لا تُقدّر بمال، أو من حيث تكاليفها المادية، إذ لا يتجاوز سعر هذه الطائرة عدة آلاف من الدولارات، بينما وصل سعر الطائرة المقاتلة من طراز F16، مثلاً، إلى 100 مليون دولار. يضاف لذلك قدراتها الفنية، كالقدرة على التحليق لأكثر من 30 ساعة متواصلة، دون الحاجة للتزود بالوقود، كما يمكنها الطيران على ارتفاعات منخفضة للإفلات من الرادارات. فضلاً عن إمكانية إطلاقها من فوق أسطح المباني، وما يرتبط بذلك من توفير إنشاء المطارات والقواعد العسكرية وتأمينها.
إلا أن سهولة نقل أجزاء هذه الطائرات في حقائب، دون اكتشافها، ثم تجميعها في أماكن استخدامها، جعلها سلاحاً خطيراً في يد الجماعات الإرهابية. ولعل أحدث دليل على سوء استخدامها، كان اشتراك الدرونز في الهجمة التي شنها الحوثيون على أبو ظبي، في مطلع الأسبوع الماضي.
واليوم، تتسابق معظم الدول لإنتاجها واستخدامها، كل وفقاً لأغراضه؛ فظهرت الدرونز الأمريكية، والروسية، والتركية، والإسرائيلية، والصينية، والإيرانية، والهندية، والمصرية، لتتغير معها مفاهيم القتال الحديث، وهو ما يُنتظر معه أن تتولى مراكز البحوث العسكرية حول العالم، تغيير التكتيكات العسكرية، لتحديد الأسلوب الأمثل للاستفادة من هذا السلاح الجديد، مع تحديد كيفية التصدي له، في ظل صعوبة اكتشافه، وبالتالي تدميره عند استخدامه في الأعمال العدائية … لذا، دعونا نترقب ما ستفسر عنه التغيرات الجديدة، في أساليب وتكتيكات القتال، في المستقبل القريب، في المدارس والعقائد العسكرية المختلفة.
Email: [email protected]