مقالات كبار الكتاب

د. محمود السعيد يكتب .. التخصص الدراسى وتحديات المجتمع التنافسى

بقلم: د. محمود السعيد نائب رئيس جامعة القاهرة

يمر الكثير من الطلاب، قبيل التحاقهم بالجامعة أو فى سنوات الدراسة الجامعية الأولي، بأوقات صعبة ومرهقة عند تحديدهم التخصص الدراسى المرتبط بمجال العمل الذى يتوافق مع طموحاتهم وتطلعاتهم، وبطبيعة الحال يأمل خريج الجامعة دائما أن يعمل فى مجال تخصصه الدراسى الذى استثمر فيه أهله قسطا يعتد به من المال، كما استثمر فيه هو نفسه عددًا من أغلى سنوات عمره ترتبط بصباه وشرخ شبابه.

لكن هذه العلاقة الافتراضية بين نوع التخصص وطبيعة العمل ليست واقعية بالضرورة لأسباب مختلفة، أهمها ما يرتبط بالاحتياجات الجديدة للمجتمعات ما بعد الصناعية، والتنافسية العالية بين الخريجين على نحو يجعل فرصة العمل من نصيب الخريج الذى يتمتع بميزة نسبية مقارنة بأقرانه. وتوضح معظم الدراسات الأجنبية الحديثة أن الكثير من خريجى كبريات الجامعات العالمية لم يحظوا بفرص عمل مرتبطة بمجالات تخصصاتهم الدراسية، ففى دراسة أمريكية نشرتها صحيفة الواشنطن بوست فى مايو 2013 ورد أن 27% فقط من خريجى الجامعات فى الولايات المتحدة هم الذين يعملون فى وظائف ترتبط ارتباطاً وثيقا بمجال تخصصاتهم الدراسية، كما أشارت دراسة نشرتها صحيفة الإندبندنت فى يونيو 2014 إلى أن 50% فقط من خريجى الجامعات فى المملكة المتحدة يعملون فى نفس مجالات تخصصاتهم الدراسية.

وثمة تقديرات تشير إلى مزيد من تقلص العلاقة فى المستقبل القريب بين نوع التخصص الدراسى وطبيعة الوظيفة، وذلك أن التطورات المتسارعة المترتبة على إعمال تقنيات الذكاء الاصطناعى سيترتب عليها أثران مختلفان، الأثر الأول هو ميكنة العديد من الوظائف التقليدية ما يعنى عمليًا الاستغناء عن شاغلى هذه الوظائف، والأثر الثانى هو إتاحة المزيد من فرص العمل فى مجالات مستحدثة ما يؤدى إلى زيادة الطلب على أصحاب الكفاءات الملائمة لهذه الأنواع الجديدة من الوظائف. ومصداقًا لعملية الإحلال والتبديل هذه تجدر التذكرة بالأفكار التى طُرحت فى صحيفة الإيكونوميست فى أبريل 2018 وجوهرها أن نحو 47% من الوظائف الحالية سينقرض خلال 25 سنة لا أكثر.

ولقد عبّر الدكتور محمود محيى الدين، النائب الأول لمدير البنك الدولى لأجندة التنمية لعام 2030، عن هذا الوضع مستخدمًا تعبيرًا دالًا هو تعبير المربكات، وذلك أن التطور التقنى الذى سيعيد ترتيب الأولويات وينهى وظائف ويستحدث أخري، هذا التطور سيحدث بعض الإرباك فى سوق العمل، وترتبط القدرة على احتواء هذه الإرباكات بالاستعداد لملاقاة التطور المذكور وإعادة النظر فى التخصصات الدراسية بالجامعات والمعاهد المختلفة بما يستجيب لحركة العصر. إن التجربة العملية تثبت أن النجاح والتميز فى العمل لا يتطلبان بالضرورة الحصول على مؤهل متصل بهذا العمل فى المرحلة الجامعية، فهناك الكثير من خريجى كليات الطب والهندسة والاقتصاد والعلوم السياسية والحقوق…إلخ قد تفوقوا فى مجالات الإعلام والفن والأدب رغم أن تلك المجالات تبعد كثيرًا عن تخصصاتهم الدراسية.

ويمكن القول إن الإخلاص فى العمل والتفانى والاستعداد للتعلم المستمر والانفتاح على الآخرين هى صفات أساسية متى توافرت فإنها تضمن جودة الأداء بغض النظر عن مدى ارتباط المؤهل الدراسى بالوظيفة. وغالبًا ما يكون الشخص الذى يبرع فى مجال لا يرتبط بدراسته هو إنسان طموح، قادر على التكيف مع الظروف المتغيرة، منفتح على الخبرات الجديدة ومؤمن بأن فى كل خبرة من هذه الخبرات المكتسبة توجد قيمة مضافة. أخلص مما سبق إلى توجيه رسالة إلى طلاب وطالبات الجامعات المصرية، مفادها أن العولمة أدت إلى تآكل الحدود بين التخصصات المختلفة وأن عصر التخصصات المغلقة على نفسها قد ولّى وفات. ويكمل ذلك أن الذكاء الاصطناعى الذى هو ذروة التطور التقنى حتى الآن قد جاء ومعه الوظائف التى تلائمه والتى يتشكل وفقا لها مفهوم التنمية المستدامة بأبعادها المختلفة. ومن هنا فمن المهم أن يتهيأ كل طالب وطالبة لشتى الاختيارات والبدائل فى مرحلة ما بعد التخرج، وهذا يتطلب أمرين، الأمر الأول التحرر من الأنساق الفكرية الجامدة والصور النمطية عن المستقبل، ومع الوعى بأن هذا التحرر يقتضى تغييرًا ثقافيًا وأن التغيير الثقافى ليس بالأمر اليسير، إلا أنه لا مناص منه، فإذا نظرنا لقادة العالم من حولنا فسنجد فيهم من تخصص فى إدارة الأعمال (دونالد ترامب)، والفيزياء (إنجيلا ميركل)، والجغرافيا (تيريزا ماي)، والقانون (فلاديمير بوتين) …إلخ ورغم هذا التنوع الكبير فى خلفياتهم الدراسية فإنهم دخلوا جميعا معترك السياسة وتركوا تخصصاتهم الأصلية من ورائهم ووصلوا إلى سدة الحكم فى بلادهم. وهذا المثل الذى ضربته على مستوى قمة صنع القرار فى كبريات دول العالم له ما يشبهه على مختلف المستويات والمجالات فى تلك الدول، حيث ينفصل التخصص الدراسى عن مضمار العمل. ليس أقدر من الشباب على مواجهة التحديات واقتناص الفرص ومواكبة المستجدات، وكل ما يحتاجونه فى هذا الخصوص هو الاشتغال على أنفسهم وتطوير ميزاتهم النسبية، وهنا أؤكد بشكل خاص أهمية تطوير المهارات اللغوية ومهارات التواصل والعمل بروح الفريق ومهارات التعامل مع الحاسب الآلى وبرامجه. كما أؤكد أهمية حضور الندوات والفاعليات الخاصة بريادية الأعمال فهى تنمّى الفكر الابتكارى وتعرض قصص نجاح رواد الأعمال.

وحسناً فعلت جامعة القاهرة عندما قررت تدريس كلِ من مقرر ريادية الأعمال ومقرر الفكر النقدى كمقررين إجباريين على جميع الطلاب، كما يُحمَد لجامعة القاهرة إنشاء أول حاضنة أعمال لنشر الفكر الابتكارى بين الشباب، وذلك أن عديدًا من الدراسات الحديثة توصل إلى أن الاقتصادات التى حققت مستوى مرتفعا من النمو، فى السنوات القليلة الماضية، إنما اعتمدت بالأساس على مشروعات ريادية الأعمال والمشروعات الابتكارية فى تحقيق هذا النمو. إن بناء مستقبل الوطن يحتاج تضافر قوى جميع أبنائه، كما أنه يحتاج إلى رؤى خلَّاقة ومقاربات جديدة وفى هذا فليتنافس المتنافسون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى