مقالات كبار الكتاب
دكتور محمد الخشت يكتب .. السلام العالمي وسلام العقول!
كتب د. محمد عثمان الخشت
“لا سلام على الأرض دون تغيير العقول؛ فالسلام يبدأ بالأفكار، والحروب تبدأ بالأفكار، ولابد من تحقيق السلام في العقول أولا، وتحرير الوجدان الإنساني من النزعات العدوانية وتحويل الرغبة في التدمير إلى أنشطة إبداعية علمية وفنية ورياضية، وتجديد فهم الطلاب للدين وفق منهجيات علمية. وهنا تكمن كلمة السر في “التعليم”.
إن تحقيق أكبر قدر من السلام العالمي يشغل بال كل مُحبي السلام وكل رافضي الحروب والنزاعات المسلحة في العالم. ولا يجب أن ييأس محبو السلام حتى وإن عجزنا مرحليا عن تحقيق السلام الشامل والدائم في الأرض، فيجب علينا أن نواصل السعي لتوسيع رقعته والحد من النزاعات المسلحة.
وهنا يجب أن نعود إلى تلك النقطة التي بدأنا بها هذا المقال، وأحسبها جوهرية وفاصلة، كما أحسبها نقطة البداية الحقيقية للتغيير، وهي أن السلام لابد من تحقيقه أولًا في العقول باعتبار أن العقول هي البداية؛ وتاريخ الدول والممالك خير دليل علي ذلك، فإذا كان هناك نوع من السلام النفسي والعقلي لدى الشعوب وحكامها فإنهم سيقودون بلادهم نحو السلام، ولا يخوضون سوى حروب دفاعية، على العكس من القادة والشعوب التي تسيطر النزعة العدوانية على عقولها ونفوسها، فإنها سوف تقود بلادها للحروب العدوانية الاستعمارية.
إن سلام العقول هو نقطة البداية التي يجب أن تحل وتسود في العالم، وإذا تحدثنا عن تحقيق السلام في العقول، فان هذا يقودونا فورا الى التعليم، فالتعليم هو الذي يصنع العقول وهو الذي يصنع الأفكار التي تحرك تلك العقول، وهو الذي يشكل طرق التفكير عند الطلاب الذين سوف يصبحون يوما ما هم القادة الذين يملكون صناعة قرار السلام أو الحرب.
ولذا يجب تطوير نظم التعليم في مختلف دول العالم من حيث المحتوى ومن حيث طرق التعلم، وتعميم التربية الحوارية التي تعوّد التلاميذ على حل الخلافات بالطرق الحوارية، وتدعم الطرق السلمية في عقول الأطفال، وبالتالي ينشأ الطفل داخل أطر ومحددات السلام؛ فالتعليم هو القادر على صناعة السلام في العالم. إن زيادة البحث العلمي المشترك بين الجامعات ومراكز البحوث من دول مختلفة، وتوسيع التجارب الثقافية والفكرية المشتركة في نظم التعليم عبر العالم، يمكن من التفاهم المشترك والمساهمة في منع الحروب.
ونعاود التأكيد مجددا على أن تحقيق السلام في العقول لا يعني أن يؤمن جميع الناس بعقائد وأفكار واحدة، فنحن لسنا بحاجة أن نكون متشابهين حتى نعيش في سلام، بل يجب أن يكون لدينا القدرة على إدارة الصراعات والخلافات بالأساليب الحوارية. والدليل على ذلك أن كثيرا من الدول والقوميات لديها الكثير من التنوع الفكري والديني والعرقي، ومع ذلك لديها قدرة على التجانس والعيش في سلام. والسبب في ذلك بكل بساطة هو قدرتها على إدارة تلك التنوعات وقدرتها على إدارة الاختلافات. وقد ساعدها في ذلك عقول شعوبها التي تربت على قبول التنوع والتعددية.
ومن بين الآليات لتحقيق سلام العقول وجود طرق بديلة لتصريف النزعة العدوانية عند الإنسان. ووفق رأي فرويد فإن كل إنسان تحكمه نزعة للحياة ونزعة للتدمير، ويكمن الحل في الارتقاء بتلك النزعات التدميرية من خلال استخدامها في النشاط الفني والرياضي والإبداعي بشكل عام؛ فالأنشطة الإبداعية تعد مسارًا رائعا لتصريف النزعات التدميرية.
وهنا يأتي دور التعليم بمفهومه الشامل والذي يقوم على تكوين طالب متكامل الشخصية. فالتعليم ليس هو تلقين المعلومات العلمية، ولكن التعليم الحقيقي هو تكوين الطالب علميا وفنيا ورياضيا وروحيا ووجدانيا. ومن هنا يجب توسع أنظمة التعليم في المجالات الفنية والرياضية، خاصة وأنها تعتبر من طرق تهذيب نزعة الصراع من أجل إثبات التفوق، فيتحول الصراع إلى تنافس محكوم بقواعد وآليات.
إن السلام لن يتحقق في العقول، دون أن نقوم بإنشاء نوعية جديدة من التعليم تقدم للطالب أسلوب حياة وطريقة عمل، نوعية جديدة تعتمد على التعلم بدل التعليم، والبحث بدل النقل، والحوار بدل الاستماع، والقدرة على الاختلاف الإيجابي بدل التسليم المطلق بالأفكار السائدة.
وإذا كانت عقليات الحروب تعتمد على حل الخلافات بالقوة، فإن تكوين عقول تؤمن بالسلام، لن يأتي سوى بتبني طرق وأساليب تدريس جديدة قائمة على التربية الحوارية Dialogical Pedagogy التفاعلية وتستهدف تكوين عقول منهجية متفتحة، وبناء شخصية متوازنة، مع التوسع في تدريس أساليب ومناهج التفكير، وتنمية مهارات التفكير النقدي والبحث عن الحقيقة.
ولن يتمكن التعليم من صنع عقليات تؤمن بالسلام، دون تجديد فهم الطلاب للدين، عن طريق تغيير المناهج التعليمية في مقررات التربية الدينية، حتى تحل الرؤية العلمية للدين والعالم والقائمة على الإيمان بالتنوع والتعددية وقبول الآخر، محل الرؤية التقليدية القائمة على النقل والحفظ والانحياز المطلق لمجموعة من الأفكار القديمة التي تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة.
والأمر لا يتوقف فقط عند تغيير طرق التفكير وتغيير رؤية العالم وإصلاح المعتقدات التي جمدت في العقول وانحرفت عن أصولها، بل يمتد أيضا إلى ضرورة أن يقوم التعليم بدوره في تحرير ملكة الوجدان وتنمية القدرة على الوعي بالمشاعر والانفعالات والتحكم فيها، وتعزيز المشاعر والانفعالات البناءة التي توجه نحو التميز والإبداع، وتغيير الثقافة في التعامل مع الطاقة الغريزية لكي تكون قوة للبناء والإبداع تحت قيادة الإرادة العاقلة. مع تطوير اللغة، باعتبار أن اللغة بمثابة قوالب تشكل الفكر في كثير من الأحيان، خاصة إذا علمنا أن طريقة التخاطب الخاطئة كانت سببا في بعض الحروب عبر التاريخ.
إذن لابد من نوعية جديدة من التعليم للمساهمة في تحقيق السلام العالمي”.
بوسطة د. محمد الخشت .. نشرت بجريدة الأهرام