الدكتور محمد علي النجار يكتب .. اللغة العربية وسهام الإصلاح
كتب الدكتور محمد علي النجار
تعرضت اللغة العربية للكثير من محاولات النيل منها ، والتقليل من شأنها ، واتهامها بالنقص والقصور ، وما أكثر هذه الدعوات التي ألبسها أصحابها أثوابًا ، تتلون بما يناسب المكان أو الزمان الذي تُطرحُ فيه ، في محاولة لخداع مستخدمي هذه اللغة من العرب والمسلمين . فقد انتشرت هذه الدعوات التي كان يُمنّي أصحابها أنفسهم بهدم اللغة العربية ، وامتدت من مصـر إلى لبنان ، ومن الجزائر إلى الهند ، إلى أندونيسيا وغيرها من أقطار العروبة والإسلام .
تنوع الأساليب:
إن مصدر هذه الدعوات هم خصوم الإسلام في كل زمان ومكان ، وإنَّ سِهامَ هؤلاء جاهزة لتُصَوَّبُ على اللغة كلما تهيأت الفرصة لهم ، أو وجدوا منفذًا لهم إلى لغة القرآن ، التي كانت وما تزال وستظل عرضة لهجوم المتربصين ؛ لأن لغتنا العربية هي الوعاء الذي يحتضن كلام الله سبحانه وتعالى ، وهي اللغة التي شرفها الله ، ورفعها فوق كل اللغات .
وقد اتخذ الهجوم على اللغة العربية ، أو قل على لغة القرآن ، صورًا كثيرة ، تمثلت بالهجوم على النحو العربي تارة ، وعلى الحرف العربي تارة أخرى ، ونادى هؤلاء باستخدام اللهجات المحلية ، بدلاً من اللغة الفصيحة ، ونادى أولئك إلى الكتابة بالحروف اللاتينية .. إلى غير ذلك من دعوات هدامة ، لا تعني اللغة العربية ، بقدر ما تعني القرآن الكريم ، دستور الأمة الإسلامية . وقد قاد هذه الدعوات رموزٌ من المستـشرقين الغربيين ، والمستغربين العرب ، فتصدى لهم رجالات العربية ، ووقفوا لهم بالمرصاد ، وفندوا آراءهم ، وسخروا من أفكارهم التي ترمي أولاً وأخيرًا إلى هدم اللغة ، وهدم الدين ، ولكن أنـَّى لهم ذلك ، وقد قال رب العزة في كتابه المبين : ( إنَّا نَحنُ نَزَّلنا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحَافِظُونَ ) صدق الله العظيم .
يقول (وليم جيفور دبلجراف) وهو نموذج لكثير من خصوم الأمة على مر التاريخ : ” متى توارى القـرآن ، ومدينة مـكة عن بلاد العرب ، يمكننا حينئذ ، أن نرى العربي يتـدرج في سـبيل الحضارة ، التي لم يبعده عنها إلا محـمد ، وكتابه ، ولا يمكن أن يتوارى القـرآن حتى تـتوارى لغته “!!( ).
اللغة هي المدخل:
إذًا ، وكما يرى هؤلاء المتربصون ، فإن اللغة العربية ، هي المدخل الذي يعتقدون أنه من خلاله يمكن أن يقوضوا الإسلام ويحاصروه ، بهدمهم اللغة العربية ، وبناء جدار العزل بين القرآن بلغته العربية ، وبين أهله من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها .
لذا ، فلا غرابة أن وجدنا الهجوم يشتد شراسة يومًا بعد يوم على لغتنا العربية ، حيث دارت المعارك الشرسة ضد لغتنا على أكثر من محور ، ومستوى ، وصعيد .
فمن المداخل التي اقتحمها دعاة الإصلاح ، والذين أرادوا من خلالها خداع أبناء العربية ، صعوبة النحو العربي ، والدعوة إلى تبسيطه ، وهي دعوة تتسم بالبراءة في ظاهرها ، وتمتلئ بالمكر والخبث في مضمونها ، ولا أدل على ذلك من محاولات الأستاذ إبراهيم مصطفى في مصـر ، الذي كتب كتابًا بعنوان ( إحياء النحو ) بما فيه من تجاوزات ، ولمّا وجد كتابه قد فشل في إحداث ما يريد ، أخذ يدفع زملاءه من مفتشي اللغة العربية بمصر ، لكتابة ما يدعم آراءه ، فصدرت ثلاثة كتب في هذا الإطار .. واختصارًا للبحث ، وتدليلاً على سوء فكره ، نسجل له قوله: ” ونحن لا نرمي من وراء هذا التيسير التهوين من علم النحو .. ولكننا نرمي إلى تأليف قلوب التلاميذ ، ولعلي لا أغضبكم إذا قلت لكم :” إنني أتمنى على الله اليوم الذي أنادي فيه بإلغاء علم النحو ، وإحراق كتبه “( ). إذًا ، فالهدف الذي وضعه إبراهيم مصطفى وأمثاله ، والغاية التي يريد أن يصل إليها ، هي إلغاء النحو العربي!!.
النحو والإعراب:
لقد نادى كثيرون ـــ بقصد أو بدون قصد ـــ بإلغاء الإعراب في أواخر الكلمات ، فرد عليهم الأستاذ عباس محمود العقاد ، وأوضح قيمة الحركة من فتحة ، أو كسرة ، أو ضمة في اللغة فقال: ” إن الحركة مهمة في العربية كالحرف أو تزيد عليه في الأهمية أحيانًا..” ( ).
وقد شهد بروكلمان للنحو العربي ، بالرغم من كونه أحد المشاركين في الحملة على اللغة العربية ، فأنطقه الله الحق ليقول: ” ولغة الشعر العربي هذه قد تميزت ميزة عظمى من الصور النحوية ، وقد بلغت من حيث دقة التعبير عن علامات الإعراب والنحو ، ذروة التطور في اللغات السامية“( ) .
لقد كانت الدعوات إلى التبسيط والتسهيل مخططًا لها في الغالب ، وجاءت بصورة عفوية في بعض الأحيان “فكان أصحاب هذه الدعوات ، ينتهزون الفرصة ، فيكررون الدعوة إلى تطوير دراسة النحو والصرف”() ، بل كثيراً ما كانت الدعوة تتجدد عن طريق مهاجمة ما أسمَوْهُ الأساليبَ العتيقةَ ، في دراسة النحو والصرف ().
وقد تذرع سعاةُ الإصلاح ودعاته في دعوتهم ، بحجة أن ” الإعرابَ ثقيلٌ ، وتعدد حركات البناء أثقل … وصرف الكلمات ومنعها من الصرف تعسف ، واللغات تؤدي كل المعاني على تنوعها بدقةٍ دون إعراب ، فألا يمكن أن تكون آخرُ الكلمات في اللغة العربية ساكنة لا بنــاء ولا إعراب فيها … وأن نرد قواعدَ النحو الكثيرة المتشعبة ، إلى أصول وجيزة سهلة جامعة ، كما هو الشأن في نحو بعض اللغات السامية؟.”()
فالنحو العربي كان عرضة لمحاولات الإصلاح تحت شعاراتٍ متعددة ، كان بعضها يأمل أن تكون النتيجةُ وجودَ لغةٍ جديدة ، ربما تصبحُ مع الزمن لا تربطها صلة بلغتنا العربية ، التي هي لغة القرآن ، وهذا سيؤدي بلا شك إلى ضمورها ، بل إلى اضمحلالها ، وبذا سيكون التهذيبُ ـ بعد ذلك ـ تحطيمًا ، والتيسيرُ تعقيدًا ، والإصلاحُ تخريـبــًا ، والتجديدُ إلغاءً ، وتغييرًا ، وتضييعًا. فاللغة عندما تفقدُ قواعدَها ، تصبحُ لغةً أو لهجةً عامية ، تتحكمُ فيها البيئةُ والظروف المحيطة من طبيعة ، ومكان ، وزمان ، ووسائل اتصال.
حجج واهية:
فهذا الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه ” أسرار اللغة ” يقول: ” إن علمَ النحو لم يكن الغرضُ من وضعه الحفاظَ على لغة العرب من اللحن … وإنما كان الغرض من وضعه التبديل والتغيير في كلام العرب … هو علم لا تربطه رابطة ، و لا تصله صلة بواقع كلام العرب ، ابتدعه النحاةُ ليغيروا ، ويبدلوا في كلام العرب ما شاءت لهم أهواؤهم”().
أما أحمد أمين ، فيرى أن سببَ الضعف في اللغة العربية ، يرجع إلى ثلاثة أمور ، لخصها بقوله:” فأما طبيعةُ اللغة ، فهي صعبة عسرة إذا قيست مثلا باللغة الإنجليزية ، أو الفرنسية ، و يكفي للتدليل على صعوبتها ، ذكر بعض عوارضها ، فهي مثلا ، لغة معربة ، تتعاور أواخرَها الحركاتُ من رفعٍ ، ونصبٍ ، وجرٍ ، وجزم حسب العوامل المختلفة ، و لا شك أن اللغةَ العربيةَ أصعبُ من اللغة الموقوفة ، أعني التي يلتزم آخرُها شكلاً واحدًا في جميع المواضع ، ومع جميع العوامل ، كاللغتين الإنجليزية و الفرنسية .. والضبط بالشكل عسيرٌ ، فلا نستعمله في الجرائد و المجلات ، و لا في أكثر الكتب الأدبية ، قديمها وحديثها“().
التبسيط والتسهيل!:
لقد تعرَّضَ النحو العربي إلى كثير من محاولات التيسير ، والتخفيف ، في دراسات وآراء تراوحت في تطرفها ، وتعسفها ، ومكرها ، وعلميتها ، وصدق نواياها ، واختصارًا للموضوع ، اكتفيت بما تقدم ، وتركتُ الأستاذ عباس محمود العقاد ـ وهو ممن تصدوا للرد على هؤلاء يفنّد آراءَهم فيقول: “ومن علامات الانحراف البعيد عن الوجهة ، أن يحسب المجددون أنهم ينتهون يومًا إلى كتابةٍ لا تحتاج إلى التعليم ، أو كتابة تكفي وحدها لتيسير القراءة الصحيحة ، بمعزل عن اللغة ، أو بلغةٍ خالية من القواعد و الأصول”(). ويرد على ما ذهب إليه أحمد أمين وغيره ، ليوضح أن لكل لغة طبيعتها ، وأن الانجليزية التي يرون فيها المثل الأعلى ، فيها ما يكفيها من المآخذ أيضًا ، فيقول: “أما الحروفُ فمنها ما يلفظ في اللغة الإنجليزية على خمسة أصوات كحرف (T) الذي ينطق (تاء) كما كلمة (t0) و ( ثاء) كما في كلمة (THINK) و (ذالا) كما في كلمة (THIS ) و (شينا) كما في كلمة (MENTION) .. و كذلك حرف الـ (S) الذي ينطق (زايا) في (IS) و (صادا) في (SALT) و (شينا) في (SURE) و (جيما ) معطشة كما في (PLEASURE)”() ، وذلك حسب أماكن ورودها في الكلمة .
ومن هنا نجد أن حجتهم بأن اللغة العربية معربة ، و اعتبارهم ذلك منقصة ، حجة واهية ، ولا تكفي لدعم أو تبرير الحملةَ الشرسةَ على اللغة العربية ، والنحو العربي. أضف إلى ذلك أنك إذا قلت: (You are) فإنك لا تعرف من المخاطب ، أذكر هو أم أنثى!!، أمفرد هو أم مثنى أم جمع!!.
نماذج ساذجة:
فمن نماذج الإصلاح التي يتحدث عنها هؤلاء المصلحون ، ما نجده عند الدكتور محمد كامل حسين() ، فمن العجب ، أن نجد من يريد تعليم الطفل العربي لغته دون تعقيد – حسب رأيه – فهو يريد للطفل أن يتعلم العامية المنقحة ، فيقول مثلاً : نحن لعبنا الكورة ، وما كان حد في المدرسة ، وما جبت الكتاب معايا … ويريد للطفل أن يكتب في حصة التعبير بالعامية المنقحة حسب تعبيره: ” نحن رحنا البحر ، وركبنا المركب ، ونزلنا الماء ، وقعدنا نسوق ورجعنا تاني ، واتفرجنا على الحتت .. وبعد ما اتفرجنا ، رجعنا البيت ، وغيرنا هدومنا المبلولة واستريحنا ، ونزلنا الجنينة بعد كده ” . ويزعم الدكتور محمد كامل حسين أن هذا خير في تعويد الطفل على الصدق في التعبير ، من أن يحفظ عبارات بالفصحى العالية عن ظهر قلب !!.
ومن هنا ، فعلى كل من يريد التصدي لإصلاح اللغة أن يدرك ” أن اللغةَ في مختلف مظاهر حياتها ، لا تسير تبعًا للأهواء والمصادفات ، ولا وفقًا لإرادة الأفراد … ومن ثم وجب على كل من يحاول إصلاحًا لُغويًّا ، أن يَعمدَ قبل كل شيء إلى دراسة حياة اللغة ، ومناهج تطورها ، وما تخضع له في حياتها من قوانين ، حتى يتميز له الممكن من المستحيل ، ويستبين له ما يتفق مع السنة الكونية ، وما يتنافر مع طبيعة الأشياء ، و حتى تأتي إصلاحاته مسايرة لهذه الطبيعة فتؤتي أكُلهَا ، وتكلل بالنجاح ” .
سؤال بريء:
بقي سؤال يطرح نفسه في ضوء لوثة أصابت بعض المتنفذين: هل الإصرار على استخدام اللغة الانجليزية في بعض الشـركات والدوائر والمؤسسات في مجتمعاتنا العربية – دون مبرر مقنع – بدل العربية ، مع جمهور عربي ربما لا يفهم معظمه غير لغته ، هل يُعد هذا الإهمال للغة العربية لونًا من ألوان الإصلاح لهذه اللغة؟؟!!.
خلال مسيرة لغتنا العربية عبر القرون ، ظهرت عشـرات ، بل مئات اللغات واللهجات عند الشعوب في أنحاء العالم ، فاندثر منها ما اندثر ، وساد منها ما ساد .. ثم باد ، وظلت لغتنا شامخة ، فما وهنت ، ولا ضعفت. إن لغةً تقوى مع مرور الزمن ، وتصمد في وجه الخصوم وتشتد ، هي لغةٌ جديرةٌ بالبقاء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.