مقالات كبار الكتاب
دكتور محمد الخشت يكتب ..إجابة العقل عن معضلات موسى (4)
كتب د. محمد عثمان الخشت
“المعضلة الثانية تظهر في إعدام العبد الصالح للغلام على جريمة لم تقع، حيث إنه بدا من التفاسير التراثية المختلفة، أنها فهمت أن العقاب تم على توقع فعل جريمة مستقبلية، فكيف يتم العقاب على فعل لم يحدث؟! قال العبد الصالح: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) (الكهف: 80، 81). فهنا فهموا من لفظ (فخشينا) أن العبد الصالح – وربما فهموا أنه الله سبحانه – يخشى من أنه سوف يفعل مستقبلا جريمة!
بينما يلوح من فهم الكلام الكريم أن ما فعله الغلام كان على اقتراف جريمة فعلية أو عدة جرائم توصف بانها طغيان وكفر، وأنها سوف تزيد مستقبلا مما يؤدي إلى إرهاق للوالدين إرهاقا لا يحتمل. مع التأكيد على أن الكفر المقارن للطغيان ليس كفراً نظرياً، بل كفر تصدر عنه جرائم. فالكفر النظري مسألة تدخل في نطاق حرية الاعتقاد التي كفلها القرآن الكريم بنصوص محكمة: (لا إكراه في الدين) (البقرة: 256)، (لكم دينكم ولي دين) (الكافرون: 6).
ومعنى كلمة (فخشينا) لا تدل على انه لم يمارس الطغيان، بل تدل على انهم يخشون زيادة وتراكم الطغيان والكفر العملي فوق ما يمكن احتماله من الوالدين: (أن يرهقهما طغيانا وكفرا). والإرهاق هو الإجهاد الشديد وإنهاك القوى والتعب فوق الطاقة الذي لا يأتي إلا بعد فعل مستمر منذ فترة سابقة، إنه نتيجة ممارسة مستمرة حدثت في الماضي ولا تزال مستمرة، وعند تراكم الأفعال يحدث الإرهاق.. ممارسةفي الماضي واستمرار الممارسة في الحاضر وتواصلها فيالمستقبل.. إنه يمارس الطغيان والكفر بالفعل، لكنه فيالمستقبل سوف يصل طغيانه الى ما يفوق قدرة الأب والأمعلى التحمل.
والكفر هنا ليس مجرد معتقد بل ممارسة على الأرض،ممارسة ينتج عنها إضرار واضح بالأم والأب والمجتمع. وهونوع من الكفر العملي بالله عند البعض الذي يتحللون في كفرهم من القيم كلها، ويقومون بارتكاب أية جريمة – حتى لو كانت القتل- دون مراعاة أي معيار أخلاقي، “فإذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح”، كما قال دوستويفسكي مؤلف (الإخوة كارامازوف) على لسان “إيفان” أحد هؤلاء الإخوة، وهذه المقولة هي التي دفعت “سمردياكوف” الابن المضطهد المنبوذ والمريض بالصرع إلى قتل الأب، وكان قاسيا يعذب القطط ويقتلها وهو صغير، ففكرة القتل كانت معه منذ الصغر ويمارسها على حيوان بريء. وعندما اقتنع “سمردياكوف” بمقولة “إيفان” أقدم على قتل الأب. فهذا هو الكفر العملي الذي يستبيح أي شيء، والذي يمثل خطرا، وغير خاف أنه نوع شديد الخطورة من أنواع الكفر بالله، فهناك نوع آخر عند من لا يؤمنون نظريا بالله لكنهم لا يتحررون من القيم ويظلون ملتزمين بالقوانين ومعايير الإنسانية.
إن غلام سورة الكهف المقتول ليس مجرد كافر نظريا، بل هو يمارس الكفر العملي الضار؛ وهو أيضا يمارس الطغيان،والطغيان في اللغة هو مصدر طَغَى، وطُغْيَان السيل فَيَضَانه، وفي السلوك البشري الطُّغْيَان: تجاوز الحد في العصيانوالظلم، وكل شيء يجاوز الحد – كما قال ابن فارس فيمقاييس اللغة- فقد طغى. والطغيان أيضا هو الجبروتوالتجبر والتصرف بقسوة وعنف.
والطاغيَة: هو الإنسان شديد الظُّلم، والمتكبِّر العاتي، والجبَّار العنيد، والذي يعتديبالقوة على الناس ويقهرهم ويأكل حقوقهم.
وهي المعاني ذاتها في السياقات القرآنية، وجاءت في تسعة وثلاثين موضعا من القرآن الكريم، بصيَغ وتصريفات مختلفة. وكلها تدل على تجاوز الحد. ومن الملاحظ أن القرآن يطلق الطغيان على أعلى درجات ظلم الناس ومجاوزة الحد في الأفعال الضارة بالآخرين، والجبروت العنيف، والإجرام المفرط، والغش البالغ. وعقوبة الطغيان في كل مواضع القرآن عقوبة مشددة. ورصد ابن سلام وغيره أنَّ الطغيان في القرآن الكريم على أربعة أوجه: الطغيان بمعنى الضَّلالة؛ وذلك كما في: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة: 51). والطغيان بمعنى العصيان؛ وذلك كما في: (اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى((طه: 24)، والطغيان بمعنى الارتفاع والتكثُّر؛ وذلك كما في: (إنَّا لَـمَّا طَغَا الماء) (الحاقة: 11). والطغيان بمعنى الظلم؛ وذلك كما في : (أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ( (الرحمن:8).
وهناك نوع من البشر لا يتراجعون عن الاستمرار في طغيانهم، حتى بعد العفو عنهم، وحتى لو رفع الله عنهم الأزمات والمعاناة فهم لا يتعظون: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون: 75، 76).
فاذا كان الغلام يمارس بالفعل الكفر شديد الخطورة الذي ينتج عنه جرائم، ويمارس الطغيان المؤذي، فان هذه الممارسة سوف تكبر وتتوسع مع الزمن، وينتج عنها الإرهاق للوالدين. وهنا كان على العبد الصالح أن ينفذ الحكم الجماعي (سنوضحه في مقال قادم إن شاء الله تعالى عندما نتوقف عند معنى كلمتي : “فخشينا”، “فَأَرَدْنَا”).
إن العبد الصالح ليس قاسيا، بل يمارس ما آتاه الله من رحمة. والرحمة في تعريفها الفلسفي هي “مطلب أخلاقي؛ حيث يتعيَّن على الفرد أن يبذل قصارى جهده للتخفيف من آلام الآخرين ومعاناتهم بقدر الإمكان وبالقدر الذي يكون فيه هذا التخفيف محل اهتمام الشخص المتألم… يقول “باتين Battin “: “هذا المبدأ الخاص بمسألة الرحمة ينص على واجبَيْن أساسيين:
1- واجب عدم التسبب في المزيد من الآلام والمعاناة.
2- واجب التحرك لوضع نهاية للآلام والمعاناة الموجودة بالفعل.”
وهذا ما فعله العبد الصالح حيث قام بوضع نهاية للمعاناة الموجودة بالفعل ومنع المزيد من معاناة الآلام في المستقبل”.
بوسطة د. محمد الخشت .. نشرت بجريدة الأهرام