عبدالحليم قنديل يكتب .. حرب العالم المنسية
كتب عبدالحليم قنديل
كانت حرب أوكرانيا ملء السمع والبصر ، ثم لم يعد أحد يذكرها اليوم إلا لماما ، السبب طبعا فى هجوم “طوفان الأقصى ” الفريد ، وما تبعه من تداعيات حرب الإبادة الجماعية لأهل “غزة” ، ووقائع الصمود الأسطورى للشعب الفلسطينى وسط شلال الدماء وزلازل الدمار ، والإبداع القتالى المذهل لجماعات المقاومة الفلسطينية فى إذلال جيش الاحتلال ، كل هذه المآسى والبطولات صارت سيدة المشهد ، وأزاحت مستجدات حرب أوكرانيا إلى بعيد ، رغم أن حرب العالم المنسية لنحو ثلاثة شهور ، شهدت تطورات ساخنة ، تكاد تؤذن بنهاية ناطقة ، فلم يعد أحد يجادل فى حقائق هزيمة الغرب بالميدان الأوكرانى ، والفشل الذريع لما أسمى بالهجوم المضاد ، والإخفاق الكامل لواشنطن وأخواتها ، وانقلاب الموازين لصالح روسيا والرئيس “فلاديمير بوتين” ، فيما انزوى الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى” على عتبات الذهاب إلى حيث ألقت .
وقد كانت بوادر التحول ظاهرة للعيان ، حتى قبل أن تغيب حرب أوكرانيا عن دائرة الضوء الإعلامى منذ السابع من أكتوبر الماضى ، كانت موسكو قد أعلنت وقتها عن دحر الهجوم المضاد ، وكانت دوائر الغرب لاتزال تتلعثم ، وتتحدث عن تعثر الهجوم المضاد لا عن فشله ، واليوم تغيرت الصورة ، واعترف “ينس ستولتنبرج” أمين عام حلف شمال الأطلنطى “الناتو” بمصائر الفشل ، وقال فى كلمات مريرة “علينا أن ننتظر أخبارا سيئة” تأتى من أوكرانيا ، وقد عاجلتهم الأخبار الأسوأ ، فقد انتهى الهجوم المضاد تماما ، وكان قد بدأ أوائل يونيو 2023 ، بعد تدرج فى تسمياته المتلكئة من هجوم الربيع إلى هجوم الصيف ، مصحوبا بأمانى غربية روجت لسحق القوات الروسية ، واستعادة أوكرانيا لمقاطعات الشرق والجنوب التى ضمتها روسيا ، إضافة إلى شبه جزيرة “القرم” ، التى ضمتها روسيا بضربة خاطفة عام 2014 ، وعادت تستأنف الحرب بعد ثمانى سنوات عبر ما أسمته موسكو “عملية عسكرية خاصة” ، بدأت فى 24 فبراير 2022 ، وكانت الوقائع العسكرية فى عام الحرب الأول مغرية للغرب ، الذى قدم لأوكرانيا مئات المليارات من الدولارات ، ودفع إلى الميدان الحربى بطوفان أسلحة متطورة ، وبهدف معلن ، هو استنزاف روسيا وربما تفكيكها ، مع فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة عالميا ، بلغ عددها نحو 15 ألف عقوبة ، فيما بدت القوات الروسية على الأرض مأزومة ، كانت توالت تراجعاتها من حول العاصمة الأوكرانية “كييف” فى الأسابيع الأولى للحرب ، وحتى الضربة المفاجئة للمعسكر الغربى من وراء القناع الأوكرانى ، التى اضطرت روسيا لانسحاب عشوائى من شرق مقاطعة “خاركيف” ، ثم لانسحاب بدا منظما نسبيا من غرب مقاطعة “خيرسون” ، وربما لم ينقذ ماء وجه روسيا فى نهايات العام الأول سوى معركة السيطرة على مدينة “باخموت” فى إقليم “الدونباس” ، وقبلها فى مدينة “سوليدار” الأصغر ، وكان البطل فى المعركتين الداميتين واحدا ، هو “جماعة فاجنر” ورمزها الشهير “يفجينى بريجوزين” ، وبعد “مفارم اللحم” القاسية فى المدينتين بأسابيع ، لقى زعيم “فاجنر” مصيره المعروف فى حادث طائرة بدا مدبرا ، بعد أن أغوته النجاحات العسكرية بسعى إلى نفوذ سياسى يناوئ “بوتين” ، الذى أبدى صبرا ودهاء مع ما قيل أنه انقلاب “فاجنر” ، وإلى أن نجح فى احتواء مقاتلى “فاجنر” ، واستعادة هيبة الجيش الروسى ، وكما بدا الجيش فى البداية مستهترا بجدية المقاومة الأوكرانية ، وبدا “بوتين” نفسه سئ التوقع لحدود الدعم الغربى ، ولتدفق السلاح بغير حدود ، فقد راحت روسيا مع نهايات العام الأول للحرب ، تراجع تقديراتها وأوضاع جيشها ، فيما ذهب سوء التقدير إلى الجانب الآخر ، وسرت فى الغرب نزعة استهتار بالجيش الروسى ، وإلى حد وصفه إعلاميا بالجيش الثانى فى ميدان أوكرانيا ، ثم بالجيش الثانى فى روسيا نفسها بعد جماعة “فاجنر” ، كانت السخرية زاعقة من الجيش الروسى الثانى فى الترتيب العالمى ، والأول فى القوة النووية والصاروخية بعيدة المدى ، وكان على “بوتين” أن يستجمع خلاصة خبرة روسيا فى حروبها التاريخية الكبرى ، فالروس كانوا ينهزمون فينهزمون فى الجولات الأولى ، ثم يكون النصر لهم فى الدور النهائى ، على طريقة ما جرى فى حملة “نابليون” لغزو روسيا أوائل القرن التاسع عشر ، وفى عملية “بارباروسا” الهتلرية أوائل أربعينيات القرن العشرين ، وقد كانت الهزيمة الأخيرة من نصيب نابليون وهتلر ، ربما لأن استفادة روسيا من دروس الهزائم التكتيكية بدت ظاهرة فى الحالين ، وبما ظهر أيضا فى وقائع حرب “أوكرانيا” ، وهى حرب ذات طابع عالمى ، واجهت فيها روسيا حربا من تحالف ضم نحو خمسين دولة ، واستشعرت خطرا على وجودها ووحدتها بعد بوادر الانتكاس الحربى المبكر ، وراحت تعيد تنظيم قواتها فى أوكرانيا ، وتبنى خطوط دفاع غير مسبوقة فى قوة تحصيناتها ، عرفت باسم الجنرال الروسى “سيرجى سوروفيكين” ، وثبت مع الهجوم الغربى المضاد أنها لا تقهر ولا تخترق ، وجرت إعادة بناء للمشهد العسكرى الروسى ، وتعاملت القوات مع نهر “دنيبرو” كمانع طبيعى وخط حدود موقوت ، ورغم التدفق الغربى الهائل بأسلحة هجومية متطورة ، والدفع بأحدث الدبابات الغربية ـ “ليوبارد” و”تشالنجر” و”أبرامز” وغيرها ـ إلى ساحات القتال ، وتزويد أوكرانيا بالصواريخ الباليستية بعيدة المدى “ستورم شادو” و”سكالب” و”أتاكمز” وغيرها ، وتعزيز التخطيط العسكرى بجنرالات بريطانيا وأمريكا وفرنسا الكبار ، إضافة لعشرات الآلاف من العسكريين الغربيين من وراء لافتات “الفيالق الأجنبية” المتطوعة ، والخدمات المعلوماتية اللحظية عبر مئات الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية ، وإشهار عمل أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية فى الداخل الروسى ، رغم كل هذا الحشد المحموم فى الهجوم المضاد ، فإن النتائج جاءت صادمة لدوائر الغرب كلها ، فقد دخلت فى سباق سلاح مع روسيا خسرته وتخسره بامتياز ، بدت التعبئة الروسية على نحو لا ينافس ، وعملت مصانع السلاح الروسى بكامل طاقتها ، وبثلاث ورديات فى اليوم ، وبدا السباق محسوما لصالح روسيا ، التى صارت تنتج وحدها سبعة أمثال ما ينتجه الغرب كله من الذخائر والمدرعات وحتى الصواريخ والطائرات المسيرة ، ووسط السباق المرعب ، جرى دهس أمل أوكرانيا فى التقدم على الأرض ، وبلغت خسائر الجيش الأوكرانى نحو 400 ألف جندى قتلوا فى الحرب إلى اليوم ، وراحت القوات الروسية تنصب الفخاخ ومصائد القتل للأوكرانيين ، على نحو ما بدا فى قرية “رابوتينى” فى مقاطعة “زاباروجيا” ، وفى قرية “كرينكى” على الشاطئ الشرقى لنهر “دنيبرو” فى مقاطعة “خيرسون” ، ورغم “لسعات نحل” عابرة مؤذية ، دفع الغرب أوكرانيا إليها فى مطارات وموانئ “القرم” و”بيلجرود” و”روستوف” وحتى فى موسكو وضواحيها ، فإن محصلة القتال بدت ظاهرة ، فلم يتزحزح الجيش الروسى خطوة فارقة إلى الخلف ، وبدت تحصيناته عصية ، ثم لجأ بعد استيعاب وامتصاص قوة اندفاع الهجوم المضاد إلى هجمات معاكسة ، تداعت عناوينها فى القضم شبه الكامل لمدينتى “أفدييفكا” و”ماريينكا” ، مع التحول بالحشد المستعد للهجوم إلى غرب “باخموت” شمالا وجنوبا ، إضافة للتقدم الحثيث على جبهات “كريمينايا” و”كوبيانسك” ، فيما يبدو أنه تجهيز لهجوم روسى منتظر باتجاه “كراماتورسك” و”سلافيانسك” المدينتين الكبريتين غرب مقاطعة “دونيتسك” الباقيتين بيد الأوكران ، فيما شارفت على النفاد قدرة “كييف” على التعبئة والتجنيد ، وأصاب الملل الغرب من الإرهاق العسكرى والاقتصادى ، وضعفت شهية واشنطن لدفع المزيد من مئات مليارات الدولارات ، فقد كانت خطة واشنطن المعلنة ، أن تحول “أوكرانيا” إلى ساحة استنزاف وإنهاك للروس ، وإلى “أفغانستان ثانية” لموسكو ، قد تقود إلى زعزعة حكم “بوتين” ، وهو مايحدث عكسه بالضبط اليوم ، فقد تحولت أوكرانيا وحربها إلى ميدان استنزاف للغرب ، ونجح الجلد الروسى فى تصدير الهزيمة للغرب ، وتكاد أوكرانيا تتحول إلى “أفغانستان ثانية” للأمريكيين لا للروس ، وقد ذهب “زيلينسكى” إلى واشنطن قبل أسبوع ، وكان يطمع فى الحصول على تمويل إضافى سخى يفوق الستين مليار دولار ، واكتفى الرئيس الأمريكى “جو بايدن” بمنح أوكرانيا فتاتا عسكريا بقيمة 200 مليون دولار لا غير ، فلا أحد فى واشنطن عاد يراوغه حلم هزيمة روسيا عسكريا ، ولا عزلها دوليا ، بعد أن نهضت موسكو بتحالف وثيق مع الصين ، وبتوسيع جماعة “بريكس” الاقتصادية ، وبفتح أسواق جديدة للبترول والغاز الروسيين عوضا عن أسواق أوروبا ، التى راحت تشترى البترول الروسى عبر وسطاء كالهند وغيرها ، وتدعم الاقتصاد الروسى المنتعش ، وتتحول بالاقتصاد الروسى إلى النمو الإيجابى مجددا ، وبنسبة معقولة ، بلغت 3.5% سنويا ، وهو معدل تنمية لا تحلم به اقتصادات الغرب المنهكة ، فقد انقلب السحر على الساحر ، وانتصر الصبر الاستراتيجى الروسى ، وراح يفرض معادلاته الجديدة فى شرق آسيا وفى أمريكا اللاتينية وفى قلب أفريقيا وعندنا أيضا ، فيما تتداعى هيمنة أمريكا فى عالم زاحف على خطوط الدم .
[email protected]