د. محمود السعيد يكتب .. جامعة القاهرة وخطابات قادة القوى العظمى
بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة
بعد تولى الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، أراد ان يفي بعهد قطعه على نفسه أثناء حملته الانتخابية وهو توجيه خطاب إلى العالم الإسلامي، وقام باختيار جامعة القاهرة لكي تكون منصة الخطاب، واختيار هذه الجامعة العريقة لم يكن أمرًا عشوائيًا، بل جاء بعد تفكير عميق من فريقه، الذي رأى أن جامعة القاهرة هي المنبر الأنسب، والأكثر رمزية وتأثيرًا، لإيصال خطابه إلى شعوب العالم العربي والإسلامي. وبعد مرور أكثر من عقد ونصف على هذا الحدث، اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جامعة القاهرة أيضا لإلقاء خطابه أمام الشعب المصري والعربي، وكان خطاب ماكرون في وقت بالغ الحساسية للدولة المصرية على المستويين الإقليمي والدولي. هذا التكرار في اختيار الجامعة من قبل زعماء دولتين من القوى لكبرى صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن، يدفعنا للتساؤل: ما السر في اختيار جامعة القاهرة لتكون منبراً للخطابات التاريخية من قبل زعماء الدول العظمى؟
تعلم حكومات هذه الدول أن جامعة القاهرة هي التي شكلت حجر الزاوية في مسيرة التعليم الحديث في مصر والعالم العربي منذ تأسيسها في 21 ديسمبر 1908. لم تكن نشأتها مجرد قرار إداري، بل كانت ثمرة رؤية وطنية من قبل نخبة من رواد الفكر والسياسة في مطلع القرن العشرين من أمثال الزعماء مصطفى كامل وسعد زغلول، ممن أدركوا الحاجة الماسة إلى وجود مؤسسة تعليمية وطنية تقدم تعليمًا عصريًا متطورًا يواكب تطلعات الشعب المصري. بدأت الجامعة كجامعة أهلية ثم تحولت عام 1925 إلى مؤسسة حكومية تحت مسمى “الجامعة المصرية”، وأُدمجت لاحقًا مع كليات من تخصصات مختلفة، إلى أن استقرت على اسمها الحالي “جامعة القاهرة” بعد ثورة يوليو المجيدة. وخلال أكثر من قرن من الزمان، كانت جامعة القاهرة فيها بمثابة بوتقة انصهرت فيها طموحات النهضة والتقدم، حيث ساهمت في تخريج أجيال من القادة والمفكرين والعلماء الذين كان لهم الدور الأبرز في صياغة تاريخ مصر والعالم العربي. ولم تكن جامعة القاهرة طوال تاريخها مجرد مباني أكاديمية لكليات ومعاهد، بل كانت ضميرًا وطنيًا ومؤسسة رائدة في تنوير العقول وبناء الإنسان المصري.
وازدادت أهمية جامعة القاهرة على المستوى الدولي من عام لأخر، فقامت بنسج شبكة علاقات أكاديمية قوية مع أعرق جامعات العالم مثل أوكسفورد، كامبريدج، والسوربون، من خلال برامج أكاديمية مشتركة ومشاريع بحثية ذات اهتمام مشترك وتبادل أكاديمي للطلاب والأساتذة، وهو ما عزز من مكانتها كمركز للبحث العلمي والتبادل الثقافي. كما أسهمت جامعة القاهرة في إعداد كوادر عالمية تولت مناصب رفيعة، أبرزهم الدكتور بطرس بطرس غالي، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، ودكتور محمود محي الدين الذي تولى عدة مناصب رفيعة المستوى في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والسيد عمرو موسى الذي تولى من بين عدة مناصب دولية أمانة جامعة الدول العربية وقادها باقتدار.
كما تتميز جامعة القاهرة من بين الجامعات المصرية والشرق أوسطية في مجالات عدة، أبرزها تخصص الطب من خلال كلية طب قصر العيني، التي تُعد من أقدم وأهم كليات الطب في الشرق الأوسط. وكذلك الهندسة، العلوم الطبيعية، القانون، العلوم الإنسانية والاجتماعية، حيث سطعت أسماء كبار العلماء في هذه المجالات الهامة، إلى جانب قادة وقانونيين ساهموا في صياغة المشهد القانوني والسياسي في مصر والعالم العربي وبعض دول العالم الأخرى. أما من ناحية التأثير الثقافي للجامعة فهو لا يقل بحال من الأحوال عن تأثيرها العلمي، فقد أنجبت رموزًا خالدة في الأدب والفن والسياسة، نذكر منهم: طه حسين، عميد الأدب العربي، ونجيب محفوظ، الحائز على نوبل، والمخرج العالمي يوسف شاهين، والدكتور محمد العريان، والكاتب السعودي غازي القصيبي، وجراح القلب العالمي مجدي يعقوب. كما منحت جامعة القاهرة الدكتوراه الفخرية لعدد من عظماء العالم مثل الرئيس الأمريكي الأسبق تيودور روزفلت، والرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، والمناضل الجنوب إفريقي الرئيس نيلسون مانديلا، وغيرهم.
وطوال تاريخها الطويل قامت جامعة القاهرة بفتح أبوابها لكل المصريين والطلاب من دول العالم أجمع دون تمييز طبقي أو جغرافي، وأسهمت في ترسيخ الهوية الوطنية وتعزيز قيم الانتماء من خلال أنشطتها الجامعية. كما قدمت حلولاً مبتكرة لقضايا المجتمع، وساهمت في تطوير العلوم التطبيقية والإنسانية بشكل مستدام. واليوم، من خلال برامجها المتميزة وشراكاتها الدولية، تواصل جامعة القاهرة دورها كمركز تواصل حضاري بين الشرق والغرب.
وتؤكد التصنيفات العالمية على تميز جامعة القاهرة، إذ تحتل الجامعة مراكز متقدمة في تصنيفات QS، Times، Shanghai، US News، Leiden، بالإضافة إلى تصنيف الجامعات العربية حيث تتصدر على المستوى المصري وتأتي في المركز الثاني عربيًا، متفوقة على جامعات ذات إمكانيات مادية هائلة.
وبفضل هذا التاريخ العريق والحاضر المشرق، يختار قادة العالم جامعة القاهرة منبرًا لإلقاء خطاباتهم المهمة إلى الشعب المصري والعربي والإسلامي. فهي ليست مجرد مؤسسة أكاديمية، بل تمثل رمزًا حضاريًا وثقافيًا يعكس الوجه المشرق لمصر، وتعد مصدر إلهام للأجيال القادمة.