مقالات كبار الكتاب

د. محمد الخشت يكتب … الاقتصاد بين الخطاب الدينى القديم والجديد (5)

كتب د. محمد عثمان الخشت
أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة- عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

لا تزال قصة ذى القرنين قصة ملهمة، سواء فى مجالات الأعمال الدنيوية، أو فى مجالات التوحيد الخالص لرب العالمين. وعلى الرغم من أننا سبق أن استلهمنا منها دروسا عديدة فى كتابنا «نحو تأسيس عصر دينى جديد» فى الحكم وفى السياسة، وفى التنمية وأنماط الحياة، وفى مواجهة الظلم والإرهاب، فإننا عندما قررنا الكتابة عن الاقتصاد الريعى والاقتصاد الإنتاجى فى نطاق المقارنة بين الخطاب الدينى البشرى القديم والخطاب الدينى البشرى الجديد، وجدنا قصة ذى القرنين تطل من جديد لتكون ملهمة أيضا فى هذا السياق؛ مما يبين للقارئ أن الخطاب الدينى الجديد ليس جديدا مبتدعا ولا زندقة جديدة، بل هو استعادة لروح الإسلام المنسى فى ضوء فهم مقاصدى حديث لنصوص الوحي، وتفسير الكتاب بالكتاب، وليس طبقا لثقافة رعوية وريعية قديمة.

ولا شك أن الإسلام المنسى المتطابق مع الوحى الكريم، قد عانى من التيه قرونا طويلة فى صحراء الكتب الصفراء، وتفرقت قضاياه وتشتتت وتناثرت بين كثير من كتب التراث فى غياهب غابة الأفكار الميتة التى سيطرت على عقول كثير من التراثيين الحرفيين. وليس هذا ذما للتراث كله دون تميز، بل نقدا للعناصر الميتة فيه، ومحاولة لاستعادة العناصر الحية ضمن منظومة جديدة فى مجملها وليس فى تفاصيلها، ومحاولة لفتح طريق ومسار جديد أمام العقل المفتوح المتوارى فى التراث، فى مواجهة العقل المغلق المتغلب على التراث بعد عصور الازدهار الأولى.

وفى كل الأحوال فإن التجديد ليس خلقا من عدم، والقطيعة الإبستمولوجية (المعرفية) هى قطيعة مع العناصر الميتة والأسطورية والأفكار المتزامنة مع ظروف اقتصادية واجتماعية خاصة ومؤقتة، وليست قطيعة مع العناصر الحية فى التراث.
ومن المعلوم أن كل شجرة جديدة تأتى من بذور سابقة، والأشجار القديمة تموت بحكم الزمن، ولا يُعقل أن نكتفى بأشجارنا القديمة، بل علينا أن نزرع أشجارا جديدة.

وتعد قصة ذى القرنين نموذجا على ما نقول، ففى الوقت الذى فسرها البعض فى ضوء أساطير القدماء، وعلى أساس المرويات الإسرائيلية، نعيد نحن النظر فيها لاستلهامها للسير قدما فى نطاق «الاقتصاد الصناعى الإنتاجي» الذى يعمل على إعطاء «قيمة مضافة» للموارد الطبيعية.. وفى الوقت الذى ركز فيه البعض على الجانب التوحيدى فيها، فنحن نرى أن هذا الجانب التوحيدى لن يكتمل إلا ببيان أهمية «القيمة المضافة»لحياة البشر، وتحقيق مفهوم «القوة»سواء فى نطاق مكافحة الظلم والإرهاب أو فى نطاق بناء «اقتصاد صناعى إنتاجي» قوي.. فلا تمكين فى الأرض لتحقيق التنمية والإنصاف، دون «قوة» تحقق هذا التمكين، ولا قوة تحقق هذا التمكين دون «اقتصاد صناعى إنتاجي»يتأسس على مفهوم «القيمة المضافة» للموارد الطبيعية من أجل البشرية كلها.. (قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي… (98))، [الكهف: 95 ــ 98].

هذا مدح إلهى واضح لعمل دنيوى غير منفصل عن تمكين فكرة التوحيد الخالص، وغير منفصل عن مكافحة الظلم والإرهاب، وغير منفصل عن تحقيق فكرة السلام والأمن والإنصاف للجميع.

ولا شك أن هذا المدح الإلهى لبناء السد بطرق صناعية تعتمد على فكرة «القيمة المضافة»، وعد القرآن الكريم له كرحمة إلهية: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)، يعني- فيما يعني- أن هذه الأعمال الدنيوية رحمة ربانية، وطالما هى رحمة ربانية تحققت نتيجة عمل بشري، إذن فهى عمل صالح تم رفعه إلى السماء، وعمل صالح تم رفعه فى التاريخ، وعمل صالح تم رفعه فى الكتاب الكريم فى سورة نسيج وحدها، هى سورة الكهف التى حلقت عبر تاريخ الإنسانية لتأخذ نماذج مختلفة من الأعمال الصالحة، تم تتويجها فى آخر تلك السورة الكريمة بما فعله ذو القرنين من أعمال نفعت مجتمعه وأفادت المجتمعات الأخرى، ولم تنفصل فى مشروعه رسالة السماء عن رسالة الأرض.

وتأسيسا على هذا، فإن مشروع ذى القرنين حمل خطابا دينيا قائما على التوحيد الخالص، وهذا التوحيد الخالص ليس مجرد فكرة وعقيدة، بل مشروع غير منفصل عن مشروعه الأرضى فى العمران وإعطاء «قيمة مضافة» لموارد الطبيعة لجعل حياة الناس أفضل.

واقرأ معى – أيها القارئ الكريم- هذه السورة الكريمة مرة أخرى، خاصة أنها من السور المحبب قراءتها يوم الجمعة، وهو اليوم الذى أكتب فيه هذه المقالات، فسوف تجد أن معظم الأعمال الصالحة فيها هى من قبيل الأعمال القائمة على العلوم والمعارف، سواء كانت علوما ظاهرة أو علوما باطنة دفينة، تم تتويجها بعلوم ذى القرنين ذات المنافع الدنيوية. ولا أبالغ إذا قلت إن علوم الرجل الصالح التى تم ذكرها فى هذه السورة الكريمة ذات منافع دنيوية.. أرجوك أيها القارئ أعد القراءة مرة أخرى حتى تجد مصداق ما أقوله لك.
ربما يأذن الله أن نعيد قراءتها معا فى المقال القادم.
> أستاذ فلسفة الدين
ــ رئيس جامعة القاهرة ـــ عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

بواسطة دكنور محمد الخشت … نشر في جريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى