مقالات كبار الكتاب

د. محمد الخشت يكتب .. من الخطاب الديني إلى الاقتصاد الجديد

كتب د. محمد عثمان الخشت
أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة- عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
“لا يمكن تأسيس خطاب ديني جديد دون إظهار البعد الاقتصادي في هذا الخطاب؛ لأن منظومة القيم الدينية ذات علاقة مباشرة بالاقتصاد، فهي تشكل مجموع الأفكار الحاكمة للسلوك العام وفي داخله السلوك الاقتصادي، وبدون رؤية جديد لهذه المنظومة لا يمكن تطوير الاقتصاد ولا يمكن تأسيس لخطاب ديني جديد؛ حيث يوجد تفاعل وثيق بين مجموع الأفكار الدينية السائدة والنظام الاقتصادي في كل المراحل التاريخية السابقة.
ويمكن الاستشهاد هنا بتلك العلاقة في العصور الوسطى بين النظام الاقطاعي ومنظومة القيم الدينية السائدة آنذاك، ثم حدوث تحول في منظومة القيم الدينية ترتب عليه نشوء النظام الرأسمالي في أوربا مع مطلع العصور الحديثة. وقد سبق أن شرحت هذه العلاقة في كتابات ومحاضرات أكاديمية ومؤسسية منذ سنوات. وربما يقدر الله تعالى التوسع في الكتابة عنها في مقالات قادمة، لا سيما عن علاقتها بالشكل الأحدث للاقتصاد، أعني الاقتصاد الرقمي.
إن الفكر الاقتصادي جزء لا يتجزأ من أية منظومة اجتماعية أو فلسفية تحديثية، ويمكن أن يجد القارئ مصداق ذلك في العديد من المنظومات الفكرية الحديثة عند كارل ماركس، وآدم سميث، وماكس فيبر، وهيجل، وأنتوني جيدنز، وغيرهم من المفكرين الذين صنعوا العالم الحديث على اختلاف مشاربهم.
ومنذ أعوام خرجت جامعة القاهرة إلى مدار جديد، وشاركت في وضع إستراتيجية عربية للتحول للاقتصاد الرقمي بالتعاون مع مجلس الوحدة الاقتصادية العربية بجامعة الدول العربية، كما وقعنا اتفاقية مع مجلس الوحدة الاقتصادية العربية لوضع الرؤية الإستراتيجية العربية للتحول للاقتصاد الرقمي. وقد سعدت منذ سنوات بدعوتي مع السفير القدير أحمد أبو الغيط أمين عام الجامعة العربية والمحافظ البارز السيد طارق عامر محافظ البنك المركزي المصري، للمشاركة في إطلاق الرؤية والاستراتيجية العربية للاقتصاد الرقمي عام 2018 بأبو ظبي.
فالاقتصاد الرقمي هو المرحلة الجديدة، وقلب الثورة الصناعية الرابعة، ومما قلته آنذاك آن الاقتصاد الرقمي سوف يطال تأثيره كل شيء، حتى العملات الورقية، لأن المستقبل لا مجال فيه للورق، سوف يكون كله للتعاملات الذكية والرقمية، ومن هنا فإني أعتقد أن استراتيجية التحول نحو الاقتصاد الرقمي سوف تؤثر على مستقبل المعاملات الورقية، وفي المستقبل القريب (الكلام عام 2018)، سيكون جزءا لا يتجزأ من هذه الإستراتيجية هو ادخال التعامل على العملات الإليكترونية (وهو ما حدث الآن فعلا)، ثم عندما تنشأ وتنبني الثقة وتقوى الآليات والتشريعات القانونية الملائمة نستطيع أن نصل في المستقبل إلى منظومة متكاملة للاقتصاد الرقمي العربية.
وكلنا أمل في تنفيذ هذه الاستراتيجية على أرض الواقع، حتى ندخل المستقبل بآليات جديدة للوحدة بعيدا عن الآليات القديمة التي يستخدمها الخطاب الديني البشري التقليدي وفق الأفكار القديمة للوحدة التي يدعو إليها أولئك القادمون من الماضي بأحلامهم مستحيلة التحقيق في العصر الحديث؛ فلكل عصر أدواته ولكل عصر وسائله، ولقد أدركت أوربا هذه الحقيقة منذ زمن، وطورت من أنظمة وأشكال الوحدة بين دولها بعيدا عن حلول الماضي، أما نحن فلا نزال نعيش خارج التاريخ بأفكار ربما كانت صائبة في عصرها، لكنها في كل الأحوال لا تصلح لمواجهة التغيرات والطفرات التاريخية التي حدثت بعدها.
ولاحقا شاركت بكلمة تأسيسية عن “مستقبل الاقتصاد الرقمي” مع السيد أمين الجامعة العربية، في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر ومعرض الاقتصاد الرقمي (سيملس الشرق الأوسط)، بدولة الامارات العربية المتحدة، والذي يُعد المعرض الأكبر في الشرق الأوسط في هذا المجال، وعقدته دولة الإمارات بالتعاون مع جامعة الدول العربية، على مدار يومي 16 و17 نوفمبر 2020 في مركز التجارة العالمي بدبي، تحت رعاية سمو الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي آنذاك، وبحضور سمو الشيخ الفريق سيف بن زايد نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية، والسفير أحمد أبو الغيط أمين عام الجامعة العربية، والسيدة نيفين جامع وزيرة التجارة والصناعة وغيرهم من الشخصيات المصرية والعالمية البارزة.
واستعرضت خلال كلمتي 5 ركائز أساسية تُستخدم لقياس وتقييم وضع الاقتصاد الرقمي، كما تحدثت عن جهود الدولة المصرية ومؤسساتها في رقمنة الاقتصاد المصري.
وعرضت أمام الحضور خطة جامعة القاهرة في التحول إلى جامعة ذكية من الجيل الثالث ثم من الجيل الرابع، وما تم تحقيقه منها، وأبرزها الانتهاء من عمليات الاقتصاد الرقمي والشمول المالي كاملة وربطها بقواعد بيانات اليكترونية لجميع منسوبي الجامعة، مع ربطها بالبنك المركزي المصري ووزارة المالية، وإطلاق أكبر منصة ذكية الكترونية على مستوى العالم للتعليم والامتحانات عن بعد، وتطوير كلية الحاسبات لتصبح كلية للحاسبات والذكاء الاصطناعي، وقطع شوط كبير في ادخال التابلت والشاشات التفاعلية في العملية التعليمية، بالإضافة إلى تأسيس بنية تحتية معلوماتية بمواصفات دولية…إلخ. علاوة على جهود أخرى سوف نشير إلى فحواها في هذه السلسة من المقالات عن الاقتصاد السياسي والتحول الاقتصادي الرقمي والخطاب الديني الجديد. ولنبدأ في المقال القادم -إن شاء الله تعالى- بمجموعة من الأفكار أود مشاركتها معكم حول تحديات الاقتصاد الرقمي، وقد طرحتها منذ أيام في مؤتمر ومعرض الاقتصاد الرقمي (سيملس الشرق الأوسط 2022)”.
بواسطة د. محمد عثمان الخشت .. نشر في جريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى