مقالات كبار الكتاب

د. محمد الخشت يكتب … أسئلة إلى العبد الصالح (10)

كتب د. محمد عثمان الخشت .. أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
“ظل الجميع في حالة وجوم متطلعين إلى إجابة العبد الصالح على سؤال زوجته المفاجئ:
-هل هذا التراجع في فهم أتباع الدين للدين، يستلزم دينا جديدا؟
-أجاب العبد الصالح: لسنا بحاجة إلى دين جديد، بل نحن بحاجة إلى عقل جديد.. إن الدين الخاتم يتضمن ثوابت ومتغيرات، ويصلح لكل زمان ومكان.. وباب الاجتهاد في فهمه مفتوح ومتغير ومتطور.
هنا ظهر هاتف من عالم القرن الواحد والعشرين الميلادي، يحمل صوتا يهتف منذ زمن: (الثوابت من حيث المصادر هي القران والسنة المتواترة. وهناك ثوابت من حيث الموضوعات، مثل: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. وأيضا أركان الإسلام الخمسة. أما المتغيرات فمثل الأحكام المستنبطة من النصوص متعددة المعاني، وتصل مساحة تلك المتغيرات في الدين في أقل تقدير إلى 75 % ؛ ويصل بها البعض إلى 95 %؛ لأنها تشمل كل الآيات والأحاديث المشتملة على ألفاظ أو عبارات متعددة المعنى حسب قواعد اللغة العربية ودلالات معاجمها، وهي غير قاطعة في دلالتها على معنى واحد من القرآن الكريم والسنة المتواترة. وهذا أحد أسباب اختلاف الفقهاء والمفسرين في تحديد معانيها ومقاصدها؛ مما يعني أنها أبوابا مفتوحة للتجديد في الفهم…
علق العبد الصالح قائلا: هذه أبواب للرحمة فتحها الوحي الكريم.. بينما يريد المتحدثون باسم الله إغلاقها. ثم عاد العبد الصالح ليكمل إجابته:
بعد الدين الخاتم ليس الإنسان بحاجة إلى دين جديد؛ لأن الدين النقي موجود في منابعه الأصلية: القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة الثابتة بيقين -وليس بظنية الثبوت- عن النبي عليه الصلاة والسلام.
-هنا تساءل يس: إذن أين المشكلة؟
– قال العبد الصالح: تكمن المشكلة في أمور كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها كلها، وسوف أكتفي ببعض منها، مثل:
1) عدم التمييز بين الإلهي والبشري في أمور الدين، مثل عدم التمييز بين ما قاله الكتاب الكريم وأقوال الفقهاء والمفسرين.
2) عدم التمييز بين الثابت والمتحول.
3) عدم التمييز بين السنة المتواترة والآحاد تمييزا فعليا عند استنباط الأحكام.
4) الفهم القاصر والخاطئ من أتباع الدين للنصوص المقدسة.
5) عدم سلامة طرق التفكير.
6) ضعف طرق الاستنباط والاستدلال.
7) اضمحلال الوعي بالسياق، وعدم تفسير الكتاب بالكتاب.
8) عدم التفكير في ضوء المتغيرات والمستجدات الاجتماعية والثقافية والعلمية، وعدم مراعاة المصالح المرسلة مراعاة حقيقية، والإصرار على التفكير وفق نظم اجتماعية وثقافية وتقاليد قبلية موروثة.. ربما تصلح لعصورها.. لكنها لا تصلح لعصورنا.
9) علاوة على تدخل أصحاب المصالح في فهم الدين لتحقيق مصالحهم الذاتية وليس لتحقيق المصالح العامة. وهذا ما يستغله بعض الكهنة لاحتكار سلطة التفسير واستنباط الأحكام.
– زوجة العبد الصالح: من هنا يكون الإنسان بحاجة إلى فهم جديد للدين يخلص أتباعه من العناصر الأسطورية والشركية والرجعية، أي بحاجة إلى تأسيس فهم ديني جديد للمنابع الأصلية في حدود العقل النقدي المنضبط والكتاب والسنة المتواترة، وتحقيقا للمقاصد الكلية للدين في عمران الأرض والارتقاء بالحياة الإنسانية.
التفت يس إلى زوجة العبد الصالح متسائلا:
– لقد استغربت منكِ هذا السؤال.. ألديك شكوك في الدين الخاتم؟
-أجابت بثبات: طبعا لا .. لكن الوحي الكريم أمرنا أن نعمل عقولنا، وأنا أنفذ فرائض الوحي ليس في الطقوس فقط، ولكن أيضا أنفذ أوامره بالتعقل والتدبر، بل وأتصورها فريضة/ فرائض مستدامة..
ثم تابعت بلهجة صارمة موجهة حديثها إلى يس: عليك أن تتذكر أننا على وشك الطواف، وعليك أن تتذكر سورة الحج، وماذا قال الوحي الكريم فيها: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]. إنني لا أريد أن أكون مثل الأنعام (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179].
رد يس: أتفق معكِ.. الله أمرنا نحن، أمرنا فردا فردا بالتدبر والتعقل، ولم يطلب منا أن ننقاد مثل البعير، ولم يطلب منا أن ننساق وراء الآخرين.
هنا قفز إلى مخيلة يس مشهد إبراهيم عليه السلام مع قومه عندما رفض الانصياع لكهنتهم الذين يريدون أن يحتكروا الحقائق الإلهية، ووبخهم قائلا: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 67، 68]..
ردت زوجة العبد الصالح: لا تنسى أن قوم إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام، ولم يعد بيننا مَن يعبد الأصنام!
– رد يس متقمصا طريقة العبد الصالح: سوف أجيبك مع مطلع فجر جديد إن شاء العلام العليم.. نسأل الرحمن الفرج.
“لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك.. لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”.
بواسطة د. محمد الخشت .. نشر في جريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى