مقالات كبار الكتاب

البحث عن السر الدفين

كتب دكتور محمود خليل

بدأ «آدم الصغير» يشعر بضيق التنفس من جديد، فأصابته نوبة توهان عن جده.. وجد نفسه يبكى.. ثم وجده يضحك.. يقفز.. يطير فى الهواء.. يجرى.. ينكفئ على وجهه.. تظهر له صورة جده آدم الكبير.. وتختفى فجأة لتظهر صورة جد جده حسن الترجمان يبتسم له.. يشعر فجأة بأنه يلتقط أنفاسه بعمق.. فتستيقظ عيناه ويرى من جديد صورة جده «آدم الكبير» يبتسم له.. فيسأله متعجبًا عن رحلة «الترجمان» التى ظل يكدح فيها بحثًا عن الموت:

الشاب: هل هناك عاقل يبحث عن الموت؟.. كل الناس تحب الحياة.

الشيخ: بل تحب الموت.. وتبحث عنه فى كل خطوة من خطواتها.. لا تبحث فقط.. بل تتعب نفسها فى البحث وتكدح حتى تصل إليه: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه».. انظر ما حدث لحسن الترجمان.

الشاب «مقاطعًا»: يا جدى.. أنا لا أحب «الرغى الكثير».. مالى أنا والترجمان.. والطاعون.. مالى أنا وهذا التاريخ.. أريد أن أسألك عن سكة الخروج من هنا.. نحن فى قبر.. أليس كذلك؟

الشيخ: كلنا سجين فى قبره.. ولا سبيل للخروج إلا باستخراج الخبيئة وتحرير الروح.. «فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين».. كلنا يسبح بداخلنا النسمة الربانية التى نفخها الله فى جسد آدم فسوته إنسانًا.. ولن تعرف كيف تكون إنسانًا إلا بالتجربة.. وأنت الآن أيها «الآدم الصغير» تسبح فى قلب التجربة.

الشاب: أشعر بأن نفسى يضيق.. ما أشد حاجتى إلى هواء نقى.. أحس بأن صدرى يتمزق.

الشيخ «وهو يضع يده على جبهة الشاب»: إليك دفقة هواء سوف تنعشك.

الشاب: أنا أفضل الآن.. «لحظة صمت»: لكنى أريد أن أسألك.. ما أهمية أن أسمع تجربة جد جدى.

الشيخ «باسمًا»: الكلام يرهقك والاستماع يفيدك ويعلمك وينعش روحك.

الشاب: عندك حق لن أتكلم حتى لا أحتاج إلى المزيد من الأكسجين.. دعنى أنظر وأنا ساكت ماذا حدث للترجمان.

ينظر آدم الصغير فيرى حسن الترجمان وهو يغلق دكانه بسرعة ويمسك فى يده «صرة مال» صغيرة. والناس من حوله تجرى فى كل اتجاه، يجرى مع غيره، ويسمع أحد الرجال وهو يصرخ: «كله يهج نحو الصحراء»، فيقول غيره: «العربان يطلعوا علينا يسرقونا»، فيردد آخر «بل إلى بولاق».. فيعلق من يجرى خلفه: «بولاق فيها العسكر.. والضرب كله هناك». يقف «الترجمان» فجأة ليلتقط أنفاسه، ثم يتأمل من حوله ممن يجرون خارج البيوت ومن يهرولون إلى بيوتهم، ويقرر أن يعود إلى البيت.

يظهر بعد ذلك وهو يقف وسط سوق مزدحمة يقف فيها جنديان فرنسيان يصخبان مع أحد الباعة.. يتدخل فيما بينهما ويسأل البائع عن المشكلة:

البائع: الفرنج يريدون شراء البضاعة بنقودهم الفرنسية.

الترجمان: وما المشكلة؟

البائع «ضاحكًا»: واضح أنك من ولاد الناس.. وليس من ولاد البلد.. تريدنى أن آخذ الفلوس الفرنساوى ليتم القبض علىّ بعد أن يغوروا من المحروسة.

الترجمان: ولماذا يقبض عليك البصاصون؟

البائع: أليس معى فلوس الأعداء؟.. سيرموننى بتهمة العمل معهم.. وظهرى لا يحتمل المزيد من الجلد.

الترجمان: ماذا تريد إذن مقابل البضاعة؟

البائع «وهو ينظر إلى الجنديين»: أريد هذه الأزرار الذهبية المعلقة فى سترة كل جندى.

الترجمان «متعجبًا»: وهل سيمنع ذلك البصاصين من القبض عليك؟

البائع: طبعًا.. إنه ذهب فى النهاية تذيبه النار.. لكنه يبقى ذهب.. وهو دليل على الغنى وليس على العمل مع الأعداء.

يترجم حسن ما قاله البائع للجنديين فيستغربان، لكنهما يستجيبان ويخلعان الأزرار الذهب ويعطيانها للبائع، وسط ضحكات من فى السوق على الفرنساويين.. بعدها يصحب أحد الجنديين الترجمان ليقدمه إلى نابليون الذى كان يبحث عن مترجمين يستخدمهم كوسطاء بينه وبين المصريين.

يبتسم الشيخ «آدم الكبير» ويقول لحفيده: هل رأيت كيف تدفع يد الله بالإنسان لتضعه فى طريق التجربة؟.. جدى لم يختر طريقه ولا أبوه.. ولا أنا.. ولا أنت يا حفيدى.. لا تسأم التجربة بل عشها.. وستخرج منها أنقى.. مثلما يخرج الذهب من النار.. التقط أنفاسك!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى