مقالات كبار الكتاب

عبدالحليم قنديل يكتب .. مهمة انقاذ السودان

بقلم عبدالحليم قنديل

لم يتوقف في السودان نزيف الحروب الداخلية ، التى زادت سعارها أطراف دولية وإقليمية ، وكان الحصاد المريرفى ملايين القتلى والتفتيت المتصل ، كانت مساحة السودان عند إعلان استقلاله – أول يناير 1956 – تبلغ مليونين و 560 ألف كيلو مترا مربعا ، كان الدولة الأكبر مساحة فى أفريقيا والعالم العربى ، وتقلصت مساحته منذ أواسط يوليو 2011 إلى مليون و886 ألف كيلو متر مربع بعد الإنفصال و إعلان دولة مستقلة فى جنوب السودان ، لم تسلم هى الأخرى من نزيف الحروب الداخلية القبلية ، ومن دون تحقيق تنمية ذات مغزى ، لا فى الشمال الأكبر ولا فى الجنوب الأصغر (644 ألف كيلو متر مربع ) ، رغم أن السودان يملك كنوزا هائلة من الموارد الطبيعية المائية والبترولية ومن مناجم الذهب واليورانيوم وغيرها ، وكانت أجيالنا وأجيال السودان تتعلم دائما ، أن السودان يصلح لأن يكون سلة غذاء المنطقة العربية كلها ، وفيه أراض صالحة للزراعة تزيد عن 200 مليون فدان ، لم يستثمر منها إلا القليل النادر المهدد بغياب الاستقرار ، وصار السودان اليوم عنوانا لأكبر كارثة ومجاعة للأسف ، فنصف سكانه البالغ عددهم 50 مليونا وأكثر ضائعون بين النزوح واللجوء والمجاعة ، فوق نزيف الدم الذى سقط فيه ملايين القتلى فى حروب بدأت عام 1955 قبل الاستقلال ، ولا أحد عاقل يستبعد أن يضاف إقليم دارفور ( 510 آلاف كيلو متر مربع ) وأجزاء من إقليم “كردفان” المجاور إلى قوائم الانفصال عن السودان لا قدر الله .

كانت الحرب فى الجنوب وعليه هى الأطول زمنا ( 55 سنة) ، من “إنيانيا -1 ” إلى “إنيانيا -2 ” وحتى الحركة الشعبيه لتحرير السودان بزعامة ” جون جارانج”، الذى كان يقول أنه يحارب من أجل تحرير السودان ووحدته القومية ، ثم ذهب “جارانج” إلى قتل غامض قبل نجاح حركته الشعبية ، وانفصل الجنوب واتخذ علما منفصلا عن العلم السودانى ، ومن دون أن يحصل على استقرار ولا على تنمية ، بل انخرط قادة الجنوب فى حرب قبلية بين مجموعتى “الدينكا” و”النوير” ، وبين الرئيس “سلفا كير” ونائبه السابق “رياك مشار” ، واليوم توشك أن تتكرر المأساة نفسها فى غرب السودان ، بين عائلة “دقلو” وعميدها “حميدتى” ونائبه “عبد العزيز الحلو” فى ما تسمى حكومة تأسيس ، يدعى الطرفان فى ميليشيات “الدعم السريع” وفى “الحركة الشعبية ـ جناح الشمال” أنهم يريدون تأسيس سودان جديد موحد ومختلف عن سودان 1956 ، وإذا نجح الانفصال الجديد لا قدر الله ، فلن يكون الكيان المنفصل أفضل حالا ، ولا عنوانا على عدالة ولا إنصاف وسلام من أى نوع ، فغرب السودان الذى اصطنعوا له علما جديدا مختلفا عن العلم السودانى ، لا يخلو من مظالم مفزعة ، ومن عسر التجانس ، ومن نزاعات الموارد بين الرعاة العرب والمزارعين الأفارقة ، ومن ثارات بين القبائل العربية وأهمها “الرزيقات” و”الأبالة” و”المهرية” و”المحاميد” و”بنى حسن” وغيرهم ، وبين القبائل الأفريقية وأهمها “الفور” و”الزغاوة” و”المساليت” وغيرهم ، وقد كان “المساليت” هم الضحايا الأكثر عددا فى مجازر مدينة “الفاشر” الأخيرة ، التى أفزعت ضمائر العالم من فرط دمويتها ووحشيتها ، وأثبت فيها “الدعم السريع” وأنصاره المدعين نسبا للديمقراطية ، أنهم لا يقلون همجية عن أبيهم ومعلمهم الذى فى “تل أبيب” وفى فلسطين المحتلة ، وما من وجه للتعجب ، فالجهات “العربية !” التى تدعمهم بتدفقات السلاح وبمليارات الدولارات المقتطعة أصلا من ذهب السودان المسروق المهرب ، تقوم صراحة بدور الوكيل الرسمى المعتمد لأعمال كيان الاحتلال “الإسرائيلى” فى المنطقة ، وخصوصا فى تنفيذ “استراتيجية شد الأطراف” التى اعتمدتها “إسرائيل” منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين .

قبل 45 سنة وأكثر ، صدرت الوثيقة السرية المعروفة باسم “استراتيجية إسرائيل فى الشرق الأوسط” ، وكان الذى كشفها ونشرها وقتها عالم الكيمياء “الإسرائيلى” المنشق “إسرائيل شاحاك” ، وتضمنت خططا مفصلة لتقسيم أغلب الدول العربية المحيطة والقريبة جغرافيا من كيان الاحتلال ، وكان الهدف رسم خرائط جديدة ، بتقسيم الدول القائمة الموروثة من زمن “سايكس ـ بيكو” على أسس قبلية وطائفية وعرقية ، وبهدف جعل “إسرائيل” الصغيرة عدديا كيانا أكبر فى المشرق العربى ، وإفساح المجال لإنجاز هدف إقامة “إسرائيل” الكبرى من “الفرات” إلى “النيل” ، وتأجيج النزعات الطائفية والعرقية والقبلية ، ثم استخدامها لإشعال الحروب الداخلية فى الأقطار العربية ، وتوظيف حضور الجميع بمن فيهم قطاعات واسعة من جماعات اليمين الدينى العربى لخدمة التقسيم وتجزئة المجزأ ، فقد كانت “سايكس ـ بيكو” على زمانها قبل أكثر من قرن ، قد قسمت الأمة إلى أقطار ، مع إنشاء “إسرائيل” كحاجز يفصل مشرق العالم العربى عن مغربه ، بينما المطلوب اليوم ومن زمن ، تقسيم الأقطار إلى أمم طائفية وقبلية صغرى ، وجعل “إسرائيل” سيدة المنطقة بلا منازع ولا مقاوم لطغيانها الممتد من الخليج إلى المحيط ، وهو ما يجرى اليوم بإسناد ميدانى من “أمريكا” ، التى حلت محل أدوار الاستعمارين البريطانى والفرنسى زمن “سايكس ـ بيكو” ، وهو ما يفعله اليوم الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” الصديق الأعظم لكيان الاحتلال فى البيت الأبيض ، والذى قالها فى صراحة ووضوح مطلق ، قال “ترامب” مبكرا ما يلى “إسرائيل صغيرة ويجب توسيعها ” ، والتكتيك الأمريكى ظاهر فى أماراته ، ويعتمد على المشاركة الفعلية فى حروب “إسرائيل” من جهة ، وعلى تعميم ما يسمى “اتفاقات أبراهام” من جهة أخرى ، وهذه الاتفاقات أخطر من سوابقها فى مجال التطبيع مع “إسرائيل” ، فهى ترمى إلى هندسة تحالف ميدانى من الدول العربية المعنية مع “إسرائيل” بالرعاية الأمريكية طبعا ، ومن وراء عناوين تكريس السلام بالقوة ، بينما يبدو الجسد العربى هامدا وفى أحوال “تحلل رمى” ، مع صرف الأنظار عن الدول العربية الجارى تقسيمها فى المشرق وفى الوسط “النيلى” ، واصطناع التساوى فى التعامل مع حكومة السودان المركزية ومع المتمردين عليها ، وطرح صيغ مسهلة لانفصال غرب السودان ، من نوع المبادرة المنسوبة لما يسمى “الرباعية الدولية” ، التى تضم ثلاث دول عربية برعاية واشنطن .

والمعروف أن واشنطن المندمجة استراتيجيا مع كيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، حتى لو ضغطت تكتيكيا أحيانا على حكومات “إسرائيلية” بعينها ، قد تقدمت ـ من خلال مبعوثها “مسعد بولس” صهر “ترامب” ـ بمبادرة حملت اسم “الهدنة الإنسانية” ووقف إطلاق النار الموقوت، وافقت عليها فورا ميليشيات “الدعم السريع” وحكومتها الانفصالية ، بينما بدت حكومة السودان المركزية مترددة فى القبول بالمبادرة المسمومة ، التى تهدف لتكريس الأمر السودانى الواقع حاليا ، وإبقاء المكسب العسكرى لميليشيات التمرد فى كامل إقليم “دارفور” وبعض نواحى إقليم “كردفان” ، وترجمة الوضع العسكرى الموقوت إلى واقع سياسى دائم ، وحكومة الخرطوم ـ المقيمة مؤقتا فى بورسودان ـ على حق فى رفض المبادرة الأمريكية ، وفى التصميم المعلن للجيش السودانى على استعادة وتحرير كامل “دارفور” و”كردفان” وحفظ وحدة السودان ، وهذا واجب الجيش وحقه ، وهو يبذل غاية جهده ، ويستنفر مقاومة شعبية مضافة لجهد “القوات المشتركة” من فصائل “دارفور” ، وكان التحالف الواسع نجح فى طرد المتمردين من العاصمة الخرطوم وولايات قلب السودان ، ويحتاج إلى دعم مؤثر من دول عربية أحرص على وحدة السودان ، وفى مقدمتها “مصر” المهددة مصالحها الوجودية إن جرى التقسيم الجديد لا قدر الله ، فالعلاقات وثيقة وتاريخية بين الجيشين المصرى والسودانى ، وقد لا تكفى إجراءات التحوط داخل مصر وعلى حدودها الجنوبية ، بل لا بد من جهد مباشر فى الميدان السودانى ، وما يرشح من أخبار وتحركات راهنة ، يشير إلى دور عربى وتركى منسق مساند لمهمة إنقاذ السودان قبل فوات الأوان .

وقد نتفهم طبائع المناورات والتصرفات الدبلوماسية ، لكنها قد لا تفيد يقينا فى صد الخطر الوجودى على السودان ، ولابد من مزج محسوب بين واجب الدبلوماسية وحق دعم السلاح السودانى ، خصوصا بعد أن فضحت مذابح “الفاشر” كل ما كان يجرى متخفيا ، فلسنا بصدد خلاف سياسى بين طرفين متحاربين فى السودان ، لسنا بصدد خلاف فى السودان ، بل بصدد حرب على وجود وسلامة السودان الذى نعرفه ، وداء السودان الذى لازمه منذ الاستقلال معروف للكافة ، ولم ينجح حكم مدنى ولا حكم عسكرى فى تجاوزه بصورة ناجزة ، فالسودان بلد عظيم المساحة هائل الموارد والتنوع القبلى ، وهناك نحو 500 مجموعة قبلية فى السودان ، وركود التنمية يعطل غايات التجانس السودانى الوطنى الجامع ، ولا ضمان لتجانس المجتمع ولا للتنمية بدون جهاز دولة قادر ، يطلق الطاقات ويوزع الأدوار ويستخدم الموارد بكفاءة وعدالة ، وهو ما افتقده السودان لعقود ، وقد تكون الحرب الجارية لمنع تقسيم إضافى للسودان هى واجب الوقت المتأخر ، وأن تأتى متأخرا خير من ألا تجى أبدا ، حمى الله السودان وأهله .
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى