بقلم: د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة
شهد العالم في السنوات الأخيرة تطورات تكنولوجية متسارعة، وأصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي جزءًا أساسيًا في مجالات متعددة وعلى رأسها منظومة التعليم والبحث العلمي. وللتعامل الأمثل مع هذا التطور السريع، قام المجلس الأعلى للجامعات مؤخرا بإصدار دليل استرشادي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي والبحث العلمي، وهي خطوة مهمة في مسيرة التعليم الجامعي المصري لضمان الاستخدام الأخلاقي والمسؤول لهذه التقنيات عند كتابة الأبحاث العلمية والرسائل الجامعية.
وما يميز الدليل الجديد هو مواكبته للتطورات الدولية في هذا الموضوع الحيوي، فالدليل لا يسعى إلى منع استخدام الذكاء الاصطناعي في إنجاز البحث العلمي، بل يسعى إلى ترشيد استخدامه وتنظيمه والتعامل معه بشكل أخلاقي ومسؤول، بحيث يُستخدم في البحث العلمي كوسيلة مساعدة تعزز جودة مخرجاته، وليس كبديل عن الإبداع الإنساني وفكر الباحث. فالقارئ للدليل سيجد أنه يضع إطارًا واضحًا لمبادئ النزاهة والشفافية في استخدام هذه التقنيات الحديثة، ويؤكد على مبدأ هام جدا وهو أن الباحث هو المسؤول الأول عن كل ما يُنشر تحت اسمه، سواء استعان بالأدوات الذكية أم لا.
ومن أبرز المبادئ التي يؤكد عليها الدليل هو ضرورة الإفصاح الكامل من قبل الباحث عن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في إعداد البحث أو الرسالة العلمية، وهو ما يشبه إلى حد كبير استعانة الباحث بمصادر علمية موجودة في الأدبيات ذات الصلة في تطوير بحثه، بشرط الإشارة إلى هذه المصادر بوضوح وبطريقة علمية منضبطة. هذا ما يطلق عليه في البحث العلمي “مبدأ الشفافية في إنجاز البحوث”، والشفافية ليست إجراءً شكليًا فقط، بل هي الضمانة الحقيقية لمصداقية البحث، وهي توجب على الباحث أن يوضح في متن البحث ما إذا كان قد استخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وفي أي مرحلة من مراحل العمل البحثي، سواء في المراجعة اللغوية أو تحليل البيانات أو إعداد المخطط البحثي، وتتفق العديد من المؤسسات الأكاديمية الدولية والمجلات العلمية الكبرى على هذا المبدأ، لما له من أثر مباشر في الحفاظ على الثقة في البحث العلمي ووضوح حدود المساهمة البشرية فيه، على أن يكون المكان المناسب في البحث لهذا التوضيح هو جزء المنهجية Methodology أو جزء الشكر والتقدير Acknowledgment.
وقد سمحت بعض الدوريات العلمية مؤخرًا بقيام الباحثين بإدراج الذكاء الاصطناعي كمؤلف مشارك في البحوث العلمية. ولكن ومن وجهة نظري يجب رفض هذه الفكرة تمامًا، لأن الذكاء الاصطناعي لا يمكن ان يتحمل مسؤولية قانونية عن نتائج البحث، ولا يمتلك وعيًا أخلاقيًا، فهو مجرد وسيلة تساعد الباحث في مراحل إعداد بحثه، بضوابط محددة ونسب استخدام معقولة، ولا يمكن اعتباره شريكاً في التأليف. فالبحث العلمي، في جوهره، يجب أن يظل جهد إنساني يقوم على الإبداع والتفكير النقدي، ومسؤولية دقة النتائج وصحة الإجراءات تقع على الإنسان وليس على خوارزمية أو نموذج لغوي مهما بلغت دقته.
وتظل مسألة مجالات استخدام الذكاء الاصطناعي في إنجاز البحوث، ونسب استخدامه، مسائل خلافية ولا يوجد اتفاق حتى اليوم عليها. ولكن تشير بعض الدراسات الحديثة إلى مجالات معينة يمكن فيها الاستفادة من الذكاء الاصطناعي بصورة مشروعة وأخلاقية، ومن أبرزها مراجعة الأدبيات العلمية وتلخيصها، اقتراح مخطط أولي للبحث وتنظيم الأفكار، مراجعة وتحسين اللغة والاتساق النحوي، إعادة الصياغة لزيادة الدقة والوضوح، تقديم ترجمة أكاديمية للبحث بغرض نشره دوليا. وسواء اتفقنا أو اختلفنا على مشروعية استخدام الباحث لهذه المجالات في إعداد بحثه، لكن يظل الشرط الأساسي للاستخدام هو أن يكون الباحث متحكمًا بالكامل في مخرجات هذه الأدوات، وأن يتحقق بنفسه من دقة ما تنتجه، لأن بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد تقدم معلومات غير موثوقة أو مراجع ملفقة فيما يُعرف بـ “هلوسة الذكاء الاصطناعي”.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه العالم اليوم لا يتمثل في منع استخدام الذكاء الاصطناعي، لأنه أمر غير واقعي وغير قابل للتنفيذ، بل في توجيه استخدامه توجيهًا أخلاقيًا ومسؤولًا يحافظ على جوهر البحث العلمي ويعزز من قيمته. فالسؤال الذي يجب أن نجد له إجابة الآن ليس “هل نستخدم الذكاء الاصطناعي أم لا؟”، بل هو “كيف نستخدمه بطريقة صحيحة ومسؤولة تحفظ للباحث مكانته وللعلم مصداقيته؟”.
وبالعودة إلى الدليل الاسترشادي الصادر عن المجلس الأعلى فنرى أنه يمثل بداية لمرحلة جديدة في الجامعات المصرية، تقوم على ثقافة الاستخدام الأخلاقي للتكنولوجيا، ثقافة تُشجع على الانفتاح على التطبيقات الذكية في البحث العلمي، دون التفريط في القيم الأكاديمية التي يقوم عليها. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون شريكًا فعالًا في دعم الإبداع الإنساني، إذا تم استخدامه بشكل أخلاقي ومسؤول، لكنه قد يضرب “المصداقية” في مقتل إذا استخدم بشكل مفرط ودون وعي أو ضوابط.
وختاماً، أؤكد أن القيمة الحقيقية للبحث العلمي لا يمكن ان تقاس بجمال صياغة فقراته ودقتها اللغوية فقط، فبالرغم من أهمية هذه الجوانب لكن تظل مسألة “عمق الفكرة البحثية” وكذلك “المعرفة الجديدة” التي يضيفها البحث إلى الإنسانية، هما القيمتان الأهم للمجتمع الأكاديمي.





