مقالات كبار الكتاب

د. محمود السعيد يكتب .. أهمية قائمة ستانفورد لأفضل 2% من العلماء

بقلم د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة

منذ بداية الألفية الثالثة أصبح قياس التأثير البحثي للعلماء والمؤسسات الأكاديمية من ضمن الموضوعات الجوهرية لتقييم مكانة الجامعات والمراكز البحثية على المستوى الدولي. ولقياس هذا التأثير تم طرح مجموعة من المؤشرات والتصنيفات الدولية، ومن ضمنها “قائمة ستانفورد لأفضل 2% من العلماء” والتي حظيت بالاهتمام الأكبر في السنوات الستة الماضية، وأصبحت موضوع نقاش أحدث جدلاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية، بل وأصبح الإدراج فيها من ضمن المعايير الهامة عند التعاقد مع أعضاء هيئة التدريس في بعض الجامعات في العالم.

هذه القائمة التي تُنشر سنويًا بالاعتماد على بيانات الباحثين من قاعدة سكوبس العالمية، وتهدف إلى تحديد أكثر 2% من العلماء في العالم تأثيرًا من حيث الاستشهادات العلمية، في عدد من التخصصات العلمية. وتعتمد القائمة على مؤشر رقمي يقيس حجم التأثير البحثي لكل عالم مقارنة بأقرانه في التخصص العلمي، مما يمكن الجامعات ومراكز البحث من متابعة التميز الأكاديمي لمنتسبيها.

لكن الأسئلة التي تتردد دائمًا عند صدور أي نسخة من قائمة ستانفورد هي: ما مدى جدية هذه القائمة؟ وهل تصدر بالفعل عن جامعة ستانفورد العريقة؟ ولماذا لا تظهر أسماء بعض كبار العلماء؟

وقبل الإجابة عن التساؤلات السابقة، من المهم أن نُشير إلى أن المؤشرات بوجه عام ليست سوى أدوات كمية رقمية تهدف إلى قياس ظواهر مركبة ومعقدة. هذه الظواهر، مثل السعادة، الفساد، التقدم أو الإنجاز العلمي، لا يمكن حصرها أو قياسها بدقة مطلقة في أغلب الأحوال، لأنها ذات أبعاد متعددة، منها ما هو ملموس وقابل للقياس، ومنها ما هو معنوي أو كيفي يصعب قياسه أو التعبير عنه بالأرقام. وبالتالي فإن المؤشرات الكمية دائمًا تختزل جزء من الحقيقة، لأنها تُبرز الأبعاد القابلة للقياس وقد تتجاهل أو تعجز عن دمج أبعاد أخرى في المؤشر لا تقل أهمية.

على سبيل المثال، في مؤشر السعادة يمكن بسهولة رصد متوسط الدخل، ومتوسط العمر، ودرجة الرضا عن الحياة، لكن من الصعب رصد مشاعر الانتماء للمجتمع وقوة العلاقات الإنسانية، وغيرهما من المشاعر التي تدخل في جوهر مفهوم السعادة. الأمر ذاته ينطبق على تصنيف قائمة ستانفورد؛ فهو في النهاية مجرد وسيلة رقمية تعكس جانبًا هاماً من الصورة الكلية وتغفل جوانب أخرى. فالقائمة تقوم على حسابات ومعايير كمية يمكن قياسها بسهولة مثل عدد الاستشهادات العلمية ومؤشرات النشر الدولي، وهي معايير موضوعية هامة لأن الاستشهادات بالأبحاث يعكس تميزها وجودتها العالية في الأغلب. لكن هذا لا ينفي حقيقة أن هناك جوانب أخرى للإنجازات العلمية والبحثية لا تظهر في معيار الاستشهادات، مثل قيمة الاكتشافات العلمية، ومدى ارتباط الأبحاث بمشكلات المجتمع، ومساهمتها في حلها. لذلك فإن معظم المؤشرات الكمية عرضة لانتقادات مستمرة من الأكاديميين، ليس لأنها غير مهمة أو أن منهاجيتها غير سليمة، بل لأنها بطبيعة الحال جزئية ومحدودة ولا يمكن أن تقيس كل الأبعاد. فهي في النهاية تقيس ما هو قابل للقياس، وتتجاهل ما دون ذلك، مما قد يؤدي إلى إبراز جوانب من الظاهرة وتجاهل أخرى. ومن هنا يجب علينا كمجتمع أكاديمي التعامل مع هذه المؤشرات بوعي وموضوعية؛ فلا يجب التقليل من أهميتها إذا لم نكن راضين عن نتائجها، كما لا يجب المبالغة في الاحتفاء بها. يجب أن ننظر إلي هذه المؤشرات على أساس أنها أدوات تشخيصية تساعد في فهم الواقع وليست أحكامًا نهائية على قيمته.

وللإجابة على الأسئلة السابقة، أشير إلى أن هذه القائمة التي تضم أهم 2% من العلماء لا تصدر رسميًا عن جامعة ستانفورد ككيان مؤسسي، ولكن يقوم بإعدادها فريق بحثي من أساتذة جامعة ستانفورد وتحت رعايتها. ولكن انتشار القائمة على المستوى الدولي، واعتمادها من قبل مؤسسات أكاديمية كبرى قد منحها مصداقية عالية، وأصبحت بالتالي من أبرز المؤشرات لقياس التأثير البحثي في العالم. والجدير بالذكر هنا هو أن الكثير من التصنيفات والمؤشرات العالمية لا تصدر عن جامعات أو مؤسسات رسمية، وإنما عن مجموعات بحثية أو أفراد، والقيمة الحقيقية للمؤشر تكمن في درجة انتشاره وثقة المجتمع الأكاديمي فيه.

أما عن أهمية هذه القائمة، فهي في الحقيقة ليست مجرد تكريم شخصي للباحثين والأساتذة الوارد أسمائهم فيها، بل هي أيضا وسيلة لقياس مستوى الجامعات ومكانتها البحثية. فكلما ازداد عدد الأساتذة المنتمين لجامعة معينة ضمن هذه القائمة، دل ذلك على قوة وتميز إنتاجها العلمي والبحثي ومدى تأثيره على المستوى الدولي. ولهذا السبب تقوم بعض الجامعات في العالم باستخدام القائمة في رسم سياساتها الأكاديمية، وتعتبر وجود اسم الاستاذ فيها مؤشرًا مهمًا على جدارته البحثية.
ويبقى التساؤل الأخير لماذا لا يظهر بعض كبار العلماء في هذه القائمة؟ والإجابة تكمن في طبيعة المؤشر ذاته كما ذكرنا من قبل، فهو يعتمد بشكل أساسي على عدد الاستشهادات في مجلات مفهرسة في قاعدة بيانات سكوبس، وليس على القيمة الجوهرية للأبحاث، وكلاهما هام جداً في تحديد قيمة الباحث وأعماله، ولكن الأول سهل قياسه والثاني غير ذلك.

فهناك من الإنجازات العلمية الكبرى قد تُحدث تطورًا معرفيًا على المستوى العالمي لكنها لا تحظى بمعدلات استشهاد مرتفعة، وهو ما يحول دون إدراج أصحابها في القائمة. ويؤكد الباحثون الذين قاموا بإعداد هذه القائمة من جامعة ستانفورد أن عدم وجود اسم باحث معين في القائمة لا يعني بحال من الأحوال انتقاصًا من قيمة أعماله أو من دوره العلمي الرائد.

ختاماً أقول إن قائمة ستانفورد لأفضل 2% من العلماء هي أداة موضوعية وشفافة وهامة لتقييم التأثير البحثي للجامعات والمراكز البحثية، وتزداد قيمتها بفضل انتشارها على المستوى الدولي. وعلى الرغم من عدم قدرة القائمة على قياس كل جوانب الأثر العلمي للباحث، لكنها تبقى واحدة من أبرز المؤشرات الكمية التي تسلط الضوء على الكفاءات العلمية حول العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى