مقالات كبار الكتاب

عبدالحليم قنديل يكتب .. كوميديا “ترامب” فى حرب أوكرانيا

بقلم د. عبدالحليم قنديل

يبدو أن الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” اكتفى فى حرب أوكرانيا بلعب دور هامشى كوميدى الطابع ، فقد صعد موخرا إلى سطح مبنى البيت الأبيض ، وكان الصحفيون يخاطبونه ويرقبونه من أسفل ، وسألوه عما إذا كان ينوى تجديد وبناء قاعة للرقص هناك ، ومازحهم قائلا فى نبرة عالية الصوت ، أنه ينوى بناء صواريخ نووية ! ، وتدفقت الأسئلة المذعورة ، مع استفسارات قلقة عن ما يقصده الرئيس ، وبالذات بعد قرار “ترامب” المعروف بنشر غواصتين نوويتين أمريكيتين بالقرب من سواحل روسيا ، ولم يفاجأ عاقل ولا مجنون بجواب “ترامب” لاحقا ، حين أعلن أنه ينوى سحب الولايات المتحدة بالكامل من حرب أوكرانيا ، وقال فى لهجة مسرحية “هذه ليست حربى” ، وأضاف “إنها حرب جو بايدن” ، جريا على عادته فى تحميل الأوزار كلها للرئيس الأمريكى السابق ، وإن كان لا ضير عنده من توزيع الشتائم والبلاوى على آخرين أحيانا ، وعلى الرئيس الأمريكى الأسبق “باراك أوباما” بالذات .

وعلى سبيل إكمال دوره الكوميدى البائس ، قرر “ترامب” أن يرسل صديقه ومبعوثه المقاول الصهيونى اليهودى “ستيف ويتكوف” إلى موسكو سعيا للقاء الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” ، الذى سبق لترامب أن أنذره وهدده إن لم يوقف حرب أوكرانيا ، ومنحه مهلة لخمسين يوما ، قرر اختصارها فيما بعد إلى عشرة أيام ، ومن دون أن يرمش جفن “بوتين” ، فكان قرار “ترامب” أن يرسل “ويتكوف” لاستمالة عطف “بوتين” ، الذى لم يغير حرفا فى شروطه لتسوية النزاع الأوكرانى ، وهكذا بدا مشهد إرسال “ويتكوف” فى نهاية مهلة أيام “ترامب” ، وكأن الأخير كان يعطى مهلة وإنذارا لنفسه لا للرئيس الروسى ، ولكى يوحى بأن هناك تقدما ما فى سعيه للحصول على جائزة وقف حرب أوكرانيا ، وكان “ترامب” إدعى أن بوسعه وقف حرب أوكرانيا فى 24 ساعة ، ثم تداعت الأيام والشهور إلى اليوم ، ومن دون أن يحدث شئ ، اللهم إلا اشتداد وطأة الحرب ، واتساع خرائط التقدم والتمدد العسكرى الروسى فى الأراضى الأوكرانية ، وكان “ترامب” عبر مرارا عن ضيقه من مراوغات “بوتين” ، رغم أنه ـ أى “ترامب” ـ أنفق ساعات طويلة فى ست مكالمات هاتفية طويلة مع سيد الكرملين ، وفى ذروة ضيق “ترامب” المعلن من استخفاف “بوتين” به ، هدد روسيا بفرض عقوبات أمريكية إضافية ، وفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة مئة بالمئة على صادرات روسيا وشركائها التجاريين فى الهند والصين بالذات ، وجاءت النسبة أقل بكثير من نصوص مشروع قانون فى الكونجرس ، أعده السيناتور “لينزى جراهام” الصهيونى اليهودى ، ورفع فيه نسبة الرسوم المفترضة عقابا لروسيا والشركاء إلى 500% ، ورغم تواضع عقوبات “ترامب” قياسا لما أراده “جراهام” ، فقد عاد “ترامب” إلى التشكك فى جدوى أى عقوبات على روسيا ، وقال فى تصريحات لاحقة ما نصه أن الروس “ماكرون وبارعون جدا فى تجنب (أثر) العقوبات” ، وهكذا بدا “ترامب” كأنه يريد التراجع عن قصة التهديد بالعقوبات على روسيا ، ويسعى لإخراج التراجع بقرار إرسال “ويتكوف” للقاء “بوتين” لمدة ثلاث ساعات ، خرج بعدها “يورى أوشاكوف” مستشار الرئيس الروسى ، ووصف المحادثات بالبناءة الحافلة بإشارات متبادلة بين موسكو وواشنطن ، وهو ما اعتادت موسكو على قوله كل يوم تقريبا ، ولكن بمفهومها لخاص ، الذى يريد تصريف مباحثات “اسطنبول” وغيرها فى جوانب إنسانية ، من نوع تبادل الأسرى وتسليم جثث آلاف القتلى الأوكران ، أو حتى وقف إطلاق نار نوعى عابر ، أما وقف الحرب فمشروط بقبول الشروط الروسية الكاملة ، وإعلان “كييف” عن الاستسلام الكامل ، وهو ما عبر عنه الناطق باسم الكرملين “ديمترى بيسكوف” ، حين قال للصحفيين “أن العملية طويلة ، وتتطلب جهدا ، (…) وعلى الأرجح يتزايد فهم هذا الأمر فى واشنطن” ، فيما لا تعبر موسكو عن شبهة جزع من فرض عقوبات جديدة عليها ، فاقتصاد روسيا ينمو بمعدلات كبيرة ، رغم أو بفضل فرض 24 ألف عقوبة اقتصادية على موسكو ، ومعدل نمو الاقتصاد الروسى بلغ 4.3% فى العام الأخير ، والعملة الروسية “الروبل” تبدى ثباتا مدهشا ، فقد كان الدولار الأمريكى يساوى 75 روبل قبل حرب أوكرانيا ، وبعد نحو ثلاث سنوات ونصف السنة من الحرب الضروس ، لا يزال سعر الدولار عند مستوى 78 روبل روسى ، وهكذا تبددت أوهام الغرب كله عن إمكانية خنق روسيا بسلاسل العقوبات الغليظة ، وفرض أسعار تحكمية مخفضة للبترول الروسى إلى 43 دولار للبرميل ، على نحو ما فعله الاتحاد الأوروبى فى حزمة عقوباته الأخيرة المضافة ، وهو ما تهزأ به روسيا صاحبة الاحتياطات المهولة من البترول والغاز الطبيعى ، وصاحبة “أسطول الظل” ، والمكانة المميزة فى “أوبك بلس” ومنظمة “بريكس” وتحالف “شنجهاى” وغيرها ، ولا يضيرها أن تبيع بترولها لأصدقائها بأسعار تفضيلية مخفضة .

وفى الميدان العسكرى الملتهب ، تواصل روسيا امتيازها وتفوقها الميدانى ، وحرب أوكرانيا كما هو معروف ، كانت من بدايتها حربا ذات طابع عالمى جارية فى الميدان الأوكرانى ، وواجهت فيها روسيا وتواجه تحالفا من 54 دولة معادية على رأسها أمريكا ، وأدار الرئيس الروسى حربه على نحو مدروس متدرج دون إعلان التعبئة العامة ، ولجأ إلى بناء وتطوير مجمع عسكرى صناعى هائل ، تزيد إنتاجيته اليوم بأربعة أمثال قياسا إلى ما ينتجه الغرب الأمريكى الأوروبى كله ، وثبت بحقائق الميدان المرئية ، أن ما أسماه “بوتين” بالعملية العسكرية الخاصة ، تحرز تقدما يوميا مطردا على الأرض ، يتجاوز المقاطعات الأوكرانية الأربع التى أعلنت روسيا ضمها رسميا فى أواخر سبتمبر 2022 (لوجانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون) ، ففى كل يوم ، تسيطر روسيا على بلدة أو بلدتين مما تبقى من المقاطعات الأربع تحت اليد الأوكرانية ، وتضيف إليها تقدما محسوسا فى ثلاث مقاطعات أخرى هى “سومى” و”خاركيف” و”دنيبرو بتروفسك” ، وتخطط لعبور نهر “دنيبرو” ، الذى تريد موسكو جعله حاجزا طبيعيا يفصل أراضيها الجديدة عن ما تبقى من أوكرانيا ، إضافة للسيطرة مع “القرم” على حزام من المناطق الآمنة شمال وغرب ما تسميه روسيا الجديدة ، مع توجيه ضرباتها الصاروخية شبه اليومية إلى مخازن وخطوط الإمداد والتدريب بالسلاح الغربى ، وتسعى لاستنزاف متصل لأسلحة الغرب ومئات مليارات دولاراته جميعا فى الميدان ، وتمتص الضربات المتفرقة لأراضيها بأسراب الطائرات المسيرة المنطلقة من أراضى أوكرانيا ، وقد لا يمكن لأحد عاقل ، أن يتصور حدودا بعينها للتوسع الروسى الدءوب فى غير تعجل ، فأهداف روسيا أبعد من إخضاع أوكرانيا ونزع سلاحها ، أو منعها من الانضمام لحلف “الناتو” والاتحاد الأوروبى ، والجيش الأوكرانى غادر مربع الإنهاك إلى هاوية الهلاك الفعلى ، وإلى حد أن الرئيس الأوكرانى اليائس “فلوديمير زيلينسكى” ، قرر مؤخرا جواز تجنيد الرجال فوق سن الستين (!) ، وبما آثار سخرية الرئيس الأمريكى نفسه ، رغم أن الأخير قرر استئناف توريد المعدات العسكرية للميدان الأوكرانى ، وبشرط أن يدفع الحلفاء الأوروبيون الثمن مقدما ، فهو يدرك قبل غيره ، أن هزيمة الغرب فى أوكرانيا صارت أمرا مقضيا ، ولا يلتفت كثيرا إلى أقوال ساذجة تصدر أحيانا عن مسئولين أوروبيين ، بينها ـ مثلا ـ تصريح عبثى صدر عن وزير الخارجية الألمانى الجديد “يوهان فاديفول” ، الذى قال قبل أسابيع ، أن “أوكرانيا لا تخسر” (!) ، وأشاد بالتحول فى موقف “ترامب” إلى مواجهة “بوتين” ، فيما لا تصدر عن الرئيس الروسى غير أقواله المحسوبة بعناية ، وقبلها أفعاله بقرار فك القيود عن نشر شبكات الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى باتجاه أوروبا وآسيا وعبر المحيط الهادى ، ثم فاجأ “بوتين ” الغرب بإعلانه عن دخول صواريخ “أوريشنيك” إلى الخدمة على أراضى “بيلاروسيا” المجاورة الشقيقة المتحالفة مع موسكو ، كان الإعلان صادما لأوروبا المتخوفة من جيش روسيا ، الذى يستعيد سمعة “الجيش الأحمر” فى الحرب العالمية الثانية ، وصواريخ “أوريشنيك” متعددة الرءوس كمعناها فى اللغة الروسية “شجرة البندق” ، وتستطيع حمل رءوس تقليدية ونووية معا ، ويصل مداها إلى 5500 كيلومتر ، وليس بوسع أى نظام دفاع جوى فى العالم اعتراضها ، وتزيد سرعتها عن عشرة أضعاف سرعة الصوت ، وتقطع 1200 كيلومترا فى الدقيقة الواحدة ، وجرت تجربتها النهائية قبل شهور على أراضى أوكرانيا نفسها ، وأتى إعلان “أوريشنيك” المفزع للغرب عقب إعلان “ترامب” عن نشر غواصتين نوويتين بالقرب من روسيا ، وعقب المجادلة العنيفة لفظيا بين “ترامب” و”ديمترى ميدفيديف” نائب رئيس مجلس الأمن القومى الروسى ، والتى هدد فيها “ميدفديف” بنظام “اليد الميتة” الموروث عن الاتحاد السوفيتى السابق ، وهو نظام آلى للرد تلقائيا على أى هجوم نووى يستهدف روسيا .

وباختصار ، دفعت روسيا الوضع كله إلى حافة الحرب النووية ، وتركت “ترامب” لمقاطعه الكوميدية المصورة تليفزيونيا .
[email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى