مقالات كبار الكتاب

د. محمود السعيد يكتب .. حوكمة التعليم العالي في مصر منذ عام 2014 – الجزء الرابع

بقلم د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة

في المقالات السابقة من هذه السلسلة، تناولنا مجموعة من المبادرات والسياسات المؤسسية التي ساهمت في تعزيز مبادئ الحوكمة داخل منظومة التعليم العالي في مصر منذ عام 2014، وذلك في إطار دعم وتوجيه القيادة السياسية نحو تطوير هذا القطاع الحيوي. ومن هذه المبادرات التوسع في الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية في إدارة العملية التعليمية، بالإضافة إلى دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في الجوانب التعليمية والإدارية على حد سواء. كذلك تأسيس الجامعات الأهلية التي ترتبط تنظيميًا بالجامعات الحكومية، بما يهدف إلى توسيع قاعدة المستفيدين من خدمات التعليم العالي وتقديم نماذج مبتكرة للمؤسسات الأكاديمية تتماشى مع متطلبات العصر وسوق العمل المتغير. كما أن هناك مبادرات نوعية كان لها أثر مباشر في دعم الحوكمة مثل مبادرة “جريس” العالمية، التي هدفت إلى تمكين الشباب وتعزيز وعيهم بمفاهيم الحوكمة وآليات مكافحة الفساد. أيضاً تأسيس شركات جامعية وفقًا لقانون حوافز العلوم والتكنولوجيا والابتكار، وتطوير سياسات حماية الملكية الفكرية لتتلاءم مع متطلبات الاقتصاد القائم على المعرفة، وأخيراً التحسن الملحوظ في الهياكل التنظيمية المعنية بالمراجعة الداخلية والحوكمة داخل الجامعات، حيث تم إنشاء إدارات متخصصة تعزز من مستويات الشفافية والرقابة الداخلية ضمن الهياكل الإدارية للمؤسسات التعليمية.

وفي المقال السابق، ناقشنا أبرز التحديات التي تقف أمام استمرارية وتكامل تجربة الحوكمة في الجامعات المصرية، ومنها وجود بعض الكيانات التعليمية الوهمية التي يمكن أن تشوه الإنجازات، والضغط المتزايد على منظومة التعليم العالي بسبب النمو السكاني واستضافة ملايين اللاجئين والمهاجرين، فضلًا عن التباطؤ في تحديث المناهج الأكاديمية من بعض الجامعات، وضعف البنية التحتية الرقمية في بعض المؤسسات، ونقص الكوادر المؤهلة والمدربة على أدوات التحول الرقمي.

وفي هذا الجزء الأخير من سلسلة المقالات، نقدم بعض التوصيات التي من شأنها ترسيخ مبادئ الحوكمة، وخاصة النزاهة والشفافية، كدعائم أساسية لضمان الجودة والاستدامة في أداء مؤسسات التعليم العالي.

التوصية الأولى تتعلق بضرورة تبني الجامعات والمؤسسات البحثية سياسات مؤسسية واضحة تدعم النزاهة الأكاديمية، من خلال وضع مدونات سلوك ولوائح تنظيمية تتضمن معايير أخلاقية صارمة تركز على الصدق الأكاديمي، احترام الملكية الفكرية، ومحاربة كل مظاهر الغش والتحايل. كما أنه من الضروري استخدام الأدوات التكنولوجية الحديثة في كشف حالات التزوير والاحتيال الأكاديمي، مع تطبيق إجراءات تأديبية عادلة وواضحة عند حدوث أية انتهاكات متعلقة بالأمانة العلمية. إضافةً إلى ذلك، يجب تنظيم ندوات وورش عمل لتوعية الطلاب والباحثين بأهمية النزاهة الأكاديمية ودورها في تعزيز الثقة في مخرجات التعليم العالي وحماية مصالحهم المستقبلية.

التوصية الثانية ترتبط بترسيخ ثقافة الشفافية في الجامعات من خلال ضمان إتاحة المعلومات الأكاديمية والإدارية لجميع أصحاب المصلحة وفقًا لاحتياجاتهم، وفتح قنوات تواصل فعالة وسهلة الاستخدام للطلاب تمكنهم من التعبير عن آرائهم وتقديم شكاواهم. كما ينبغي تفعيل دور المكاتب الإعلامية الجامعية لمواجهة الشائعات ومعالجة المعلومات المغلوطة أو غير المكتملة.

التوصية الثالثة تتعلق بمبدأ المساءلة وهو أحد أهم مبادئ الحوكمة التي لا غنى عنها. ولذلك يجب تفعيل آليات مساءلة واضحة وشفافة تتيح التعامل الجاد مع الشكاوى والانتهاكات، وضمان حماية المُبلّغين عن المخالفات، وتطبيق اللوائح والقوانين بصرامة دون تحيّز.

التوصية الرابعة تتعلق بضرورة رفع وعي الفئات المستهدفة في الجامعات، عن طريق إطلاق برامج توعوية شاملة تستهدف الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والعاملين الإداريين، لتعريفهم بأهمية النزاهة والشفافية في البيئة الجامعية، وعرض أمثلة واقعية على الأثر الإيجابي لتطبيق هذه المبادئ على مستوى أداء المؤسسات ونجاح الطلاب.

التوصية الأخيرة تتهلق بضرورة تكامل جهود الجامعات مع المؤسسات التشريعية والتنفيذية في الدولة لتفعيل دورها في مكافحة الفساد. ويمكن تحقيق ذلك من خلال التعاون مع الجهات الرقابية والحكومية في تنظيم حملات توعية عامة تسلط الضوء على مخاطر الفساد وآثاره السلبية على المجتمع، والعمل على تعزيز دور الطلاب أنفسهم من خلال إنشاء روابط طلابية تُعنى بقضايا الحوكمة والنزاهة ومكافحة الفساد، ليكونوا فاعلين في بناء مجتمع جامعي يرتكز على المسؤولية والمواطنة الفعالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى