مقالات كبار الكتاب

دكتور محمود السعيد يكتب ..النزاهة الأكاديمية والملاحظات على قياسها

بقلم: محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهر

في مقالات سابقة تعرضنا لما يُعرف بمؤشر مخاطر نزاهة البحث العلمي (RI²)، لكنني وحدت ضرورة لإعادة مناقشة هذا الموضوع على ضوء صدور تقرير حديث بنتائج هذا المؤشر، والذي يعده وينشره باحث في جامعة لبنانية. وذلك فقط بدافع المسؤولية الأكاديمية، خاصة في ظل الجدل الواسع الذي أثاره التقرير، والانتشار الملحوظ لنتائجه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي عدد محدود جدًا من الدول. ومن المهم التنويه في بداية العرض إلى أن هذا المؤشر حديث النشأة، وقد خضع لتعديلات متكررة من الباحث الذي وضعه خلال فترة زمنية قصيرة، كما أنه غير معتمد دوليًا حتى اللحظة، ولم يحظَ بتداول واسع من قِبل هيئات أكاديمية دولية متخصصة في قياس جودة البحث العلمي أو أخلاقياته.

اعتمد المؤشر في نسخته الأولى على بُعدين فقط. تمثل الأول في النسبة المئوية للأبحاث المنشورة في مجلات أُدرجت لاحقًا ضمن الدوريات المستبعدة من قواعد البيانات العالمية المرموقة مثل Scopus وWeb of Science، بدعوى وجود مشكلات تتعلق بالجودة، وذلك لقياس مدى انخراط الجامعات في النشر بدوريات منخفضة القيمة العلمية. أما البعد الثاني، فكان معدل المقالات المسحوبة لكل ألف بحث منشور، وهي أبحاث سُحبت بعد النشر لأسباب متعددة، وغالبًا ما يُنظر إلى سحب الأبحاث بوصفه مؤشرًا على وجود إشكاليات تتعلق بأخلاقيات البحث العلمي. وبناءً على هذين البعدين، تُحسب درجة المؤشر، وتُصنّف الجامعات وفقها إلى خمس فئات لونية تبدأ بالمخاطر المنخفضة وتنتهي بإشارة الخطر باللون الأحمر. وأرى أن أسوأ ما في هذا التصنيف هو آلية العرض اللوني هذه، لما قد تنطوي عليه من تشهير مؤسسي بالجامعات، رغم أن المنهجية نفسها لا تملك القدرة الكافية على قياس النزاهة الأكاديمية قياسًا دقيقًا.

في التقرير الأول الصادر في صيف العام الماضي، ظهرت ثلاث جامعات مصرية فقط ضمن الفئة الحمراء، وعدد أكبر قليلًا ضمن الفئة البرتقالية، بينما وقعت الغالبية في الفئة الصفراء. غير أن الباحث أضاف لاحقًا بُعدًا ثالثًا للمؤشر هو معدل الاستشهادات الذاتية، باعتباره مقياسا للاستخدام المفرط للاستشهاد الذاتي بغرض تضخيم عدد الاستشهادات من قبل منتسبي الجامعة. ومع إدراج هذا البعد، ارتفع عدد الجامعات المصرية المصنفة باللون الأحمر إلى أكثر من عشر جامعات، وهو ما يشير بوضوح إلى أن هذا البعد كان العامل الأهم في إعادة توصيف بعض الجامعات باعتبارها عالية المخاطر وفق تعريف واضع المؤشر للنزاهة الأكاديمية.

وفي معرض نقدي المنهجي للمؤشر، أؤكد أن النزاهة الأكاديمية هي حجر الزاوية في البحث العلمي، ويتعين على الجامعات ترسيخها وتعزيزها بين منتسبيها، ولكن هذا لا يبرر الاعتماد على مؤشر رقمي واحد يحاول اختزال ظاهرة شديدة التعقيد وذات أبعاد متعددة، وتحويله إلى أداة للحكم على نزاهة الجامعات. من الممكن أن يُستخدم المؤشر بوصفه أداة إنذار مبكر تكشف عن بعض مظاهر الخطر، مثل الزيادة غير المبررة في سحب الأبحاث بعد نشرها أو الإفراط في الاستشهاد الذاتي من قبل منتسبي الجامعة، بما يسمح للجامعات بوضع خطط لتصحيح المسار وعلاج الاختلالات. لكن الإشكالية الرئيسة تكمن في أن المؤشر يعتمد على تبسيط كمي مخلّ يؤدي إلى الخلط بين الممارسات المشروعة وغير المشروعة.

فالاستشهاد الذاتي، على سبيل المثال، قد يكون ناتجًا عن تراكم بحثي طبيعي في مجال تخصصي واحد، وليس بالضرورة مؤشرًا على خلل أخلاقي، وهو ما لا يستطيع المؤشر التفريق بينهما. وينطبق الأمر ذاته على سحب الأبحاث، الذي قد يتم لأسباب إجرائية أو تحريرية أو لخلافات بين المؤلفين، وليس بالضرورة لأسباب تتعلق بانتهاك أخلاقيات البحث العلمي، ومع ذلك يعاملها المؤشر معاملة واحدة ولا يفرق بين الحالتين. كذلك فأن البعد المتعلق بالدوريات المستبعدة من قواعد البيانات الدولية يتجاهل الطبيعة الديناميكية لتقييم الدوريات، إذ لا يتم الاستبعاد دائمًا لأسباب تتعلق بالجودة العلمية، بل قد يكون لأسباب مالية أو إدارية تتعلق بالناشر أو بقواعد البيانات نفسها.

وخلاصة القول، أنه على الرغم من الأهمية الأكاديمية للمؤشر ونبل أهدافه المعلنة، فإنه لا يستطيع في صورته الحالية قياس مفهوم معقد مثل النزاهة الأكاديمية بأدوات كمية مبسطة، تُفرغ المفهوم من مضمونه، وتحوّله دون قصد، إلى أداة للهدم لا للبناء، خاصة في ظل العرض الاستعراضي القائم على التصنيفات اللونية. كما أن المؤشر لا يزال في مرحلة تجريبية، الأمر الذي يستوجب التعامل معه بحذر شديد. ويُضاف إلى ذلك أنه لا يعكس جهود الجامعات المؤسسية في ترسيخ النزاهة الأكاديمية، من حيث وجود لجان أخلاقيات البحث العلمي، أو آليات المساءلة والمحاسبة، أو الإجراءات التأديبية، إذ يغيب عن المؤشر أي بُعد يقيس هذه الجوانب التنظيمية المهمة.

وفي الختام، تبقى مسألة الأمانة العلمية والنزاهة الأكاديمية ركنًا لا غنى عنه في العمل الأكاديمي والبحثي، وبدونهما تتراجع الثقة في مخرجات الجامعات التعليمية والبحثية. ومن ثم، فإن قياس النزاهة يظل ضرورة، بشرط أن يتم من خلال مناهج علمية رصينة قادرة على التمييز بين المقبول والمرفوض، وبين الممارسة السليمة والانتهاك الأخلاقي. وانطلاقًا من ذلك، أدعو الباحثين المصريين إلى التفكير الجاد في بناء مؤشر وطني للنزاهة الأكاديمية، هدفه دعم الجامعات وإنارة الطريق أمامها، لا تصنيفها أو وصمها أو التشهير بها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى