مقالات كبار الكتاب

دكتور محمود السعيد يكتب .. الدراسات البينية والتحديات المتشابكة

بقلم دكتور محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة

في الأسبوع الماضي شاركت في مشهد علمي وثقافي ثري، وهو افتتاح كلية الآداب بجامعة القاهرة مؤتمرها الثقافي العلمي الثاني، والذي جاء تحت عنوان “الدراسات البينية في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية: الواقع والرؤى المستقبلية” والذي ارتكزت جلساته على مناقشة ما يشهده العالم من تحولات معرفية عميقة لم تعد خلالها التخصصات العلمية تعمل في جزر منعزلة، بل أصبح التكامل التتداخل بينها هو السبيل لإنتاج معرفة أكثر قدرة على التعامل مع تحديات الواقع واقتراح حلول لمشكلاته المتسارعة.

في عالم اليوم لم يعد كافيًا أن يكون الباحث أو الخريج متخصصًا في مجال واحد من العلوم، فطبيعة التحديات التي تواجه العالم مثل تغير المناخ، الأمن السيبراني، الذكاء الاصطناعي، إدارة الموارد، الصحة العامة، وحروب الجيل الخامس،…،الخ، لا يمكن التعامل معها بتخريج كوادر من تخصصات تقليدية تقوم على الانغلاق التخصصي، بل تحتاج إلى متخصصين يجمعون بين المعرفة الكلاسيكية للعلوم بما فيها الإنسانيات والعلوم الاجتماعية وبين أدوات التكنولوجيا الحديثة، متخصصون قادرون على توظيف الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والنمذجة الرقمية في البحث واتخاذ القرار.

وقد ركزت جامعة القاهرة خلال السنوات الأخيرة على مبدأ البينية في كلياتها المختلفة باعتبارها ركيزة جوهرية لإعداد هذا النموذج من الخريجين، وأطلقت عدد من البرامج الدراسية الرائدة التي جمعت بين تخصصات متباعدة ظاهريًا، لكنها متكاملة من حيث قدرتها على فهم الواقع وصناعة القرار. ومن أبرز هذه البرامج برنامج ماجستير اقتصاديات الصحة وهو نموذج فريد يجمع بين التحليل الاقتصادي وفلسفة الرعاية الصحية وإدارة النظم العلاجية، نتج عن تعاون متميز بين كليتي الاقتصاد والعلوم السياسية والطب بجامعة القاهرة. وكذلك برنامج ماجستير الحوكمة ومكافحة الفساد الذي يمثل شراكة استثنائية بين الجامعة وهيئة الرقابة الإدارية، لإعداد كوادر قادرة على قيادة الوظائف العليا في الدولة وفق معايير النزاهة والاستدامة.

هذه البرامج البينية وغيرها من البرامج الأخرى كانت من أبرز الأسباب التي جعلت جامعة القاهرة ضمن أفضل 100 جامعة في العالم في تصنيف التايمز البريطاني للتخصصات البينية لعامين متتاليين، وهو إنجاز يعكس رغبة الجامعة في التحول نحو نموذج معرفي جديد يتجاوز الحدود التقليدية للتخصص.

أما عن مؤتمر كلية الآداب فقد تضمن ثلاث جلسات علمية حملت رؤية واضحة لمستقبل الدراسات البينية، حيث ركّزت هذه الجلسات على مناقشة مبدأ التكامل بين العلوم الإجتماعية والإنسانيات والعلوم التقنية بغرض إنتاج معرفة أكثر تأثيرًا في سياسات الدولة ومشروعها للتنمية المستدامة. ودارت الجلسة الأولى حول البحث البيني في الدراسات العليا: التحديات والفرص والتي ناقشت كيفية تطوير برامج الدراسات العليا لتصبح أكثر قدرة على مواكبة احتياجات المجتمع، ومنح الطلاب مساحة تجمع بين الفلسفة، وعلم النفس، والعلوم الاجتماعية، والتحليل الرقمي. أما الجلسة الثانية فدارت حول مفهوم البينية في الدراسات الأدبية، وتطرقت الجلسة إلى التغير الجذري الذي تشهده الدراسات الأدبية في عصر البيانات الضخمة، حيث أصبح الأدب يتفاعل مع الذكاء الاصطناعي، ومعالجة اللغة الطبيعية، والتحليل الرقمي للنصوص، وهو ما يفتح آفاقًا غير مسبوقة للنقد الأدبي. والجلسة الثالثة دارت حول علاقة الأدب بالمكان، حيث سلّطت الجلسة الضوء على العلاقة المعقدة بين الأدب والبيئة والمكان، وكيف يساهم هذا التفاعل في فهم الهوية والذاكرة الثقافية وتطور المجتمعات.

إن مخرجات مؤتمر كلية الآداب تؤكد على أن الدراسات البينية لم تعد رفاهية أكاديمية، بل أصبحت ضرورة وجودية في عالم يندمج فيه الإنسان مع التكنولوجيا، فالمستقبل سيكون لأصحاب المهارات المركبة، الذين يجمعون بين التفكير النقدي الإنساني والتحليل الرياضي والرقمي، وبين الثقافة والأخلاق من جهة، والتقنية والابتكار من جهة أخرى. فالإنسانيات والعلوم الاجتماعية لا يمكن أن تفقد جوهرها حين تنفتح على التكنولوجيا، بل تصبح أكثر فائدة للإنسان وأكثر قدرة على تفسير العالم وتحدياته المتشابكه، وأكثر نجاعة في صياغة حلول للظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعقدة. فالتطورات الحديثة المتسارعة في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لا يمكن أن تلغي الإنسان، لكنها بالطبع ستعيد تعريف دوره في الحياة والتنمية. .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى