بقلم: أ.د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة
في زمن تتسارع فيه خطى المعرفة، وتتقدم أدوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل غير مسبوق، وتتعاظم تأثيرات الثورات الصناعية الرابعة والخامسة على حياتنا اليومية، يعود للواجهة، وبشكل صادم، جدلٌ على وسائل التواصل الاجتماعي عن ممارسة تراثية اعتقدنا أنّها انتهت منذ عقود. هذا الجدل كان حول ممارسة “البشعة”، تلك الممارسة التراثية التي لا أصل لها ولا سند من علم أو دين، والتي ظهرت مجددًا بعد انتشار مقطع فيديو خلال الأيام الماضية لفتاة تتعرض لها على يد بعض أفراد أسرتها في محاولة بدائية للتحقق من صدق أقوالها.
في رأيي أنّ مجرد التساهل مع هذه الممارسات في عصرنا الحالي الذيٍ يقوم على المعرفة والتحليل العلمي للظواهر هو إهانة بالغة للعقل البشري والتقدم الذي حققته الإنسانية في مجالات المعرفة المختلفة. فنحن نعيش اليوم زمنًا تستطيع فيه تطبيقات الذكاء الاصطناعي تحليل بيانات المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي والتنبؤ باتجاهاتهم ورغباتهم بثقة عالية ودقة شديدة دون حتى أن نجلس معهم في غرفة واحدة، كما أصبح تتبُّع الأدلة والكشف عن الجرائم أكثر دقة وموثوقية باستخدام أدوات تكنولوجية حديثة قادرة على تحليل مليارات البيانات في ثوانٍ معدودة ووفق أسس علمية راسخة. ورغم ذلك، تطلّ علينا بعض مظاهر الخرافة لمعرفة الحقائق مثل ممارسة “البشعة”.
تاريخياً ظهرت ممارسة البشعة في بيئات بدوية وقَبَلية عجزت، بحكم الإمكانات المحدودة للمجتمعات آنذاك، عن الوصول إلى الأدلة بصورة موثوقة أو التحقق من الحقيقة بصورة دقيقة. وبالتالي لجأت هذه المجتمعات البدائية إلى أدوات بسيطة، لا تعتمد على العلم، للفصل في النزاعات، وذلك حين يعجز شيخ القبيلة أو تغيب السلطة القضائية المنظمة. وقد اتخذت هذه الممارسة أشكالًا مختلفة، فهناك من استخدم سكينًا حامياً يُطلب من المتهم لعقها كما ظهر في فيلم البيضة والحجر للفنان الراحل أحمد زكي، وهناك من يسخّن قطعة معدنية كالملاعق والسكاكين ويطُلب من الشخص الذي يتم التحقيق معه أن يلمسها بلسانه. ووفق هذه الخرافة، إذا لم يُصب المتهم بأذى كان صادقًا، وخلاف ذلك فهو كاذب.
إنّ هذا المنطق البدائي، إذا جاز أن يُسمّى منطقًا من الأساس، قد يكون مفهومًا في عصور كانت فيها مؤسسة القضاء غائبة أو عاجزة وليس لديها القدرات الكافية للتقصي عن الحقائق، وكانت المجتمعات تعتمد على الأعراف لسد الفراغ التشريعي والمؤسسي فيها. أمّا اليوم، حيث تتطور علوم الطب الجنائي، وتحليل البيانات الكبيرة، وتقنيات التتبع الرقمي الذكية، فإنّ الإصرار على اللجوء لمثل هذه الأساليب في اتهام الأشخاص أو تبرئتهم يُعدّ ارتدادًا حضاريًا وعودة إلى زمن الشعوذة والتفسيرات الخرافية. فمن الناحية العلمية البحتة، لا وجود لأي علاقة بين ملامسة اللسان لمعدن ساخن وبين صدق الشخص أو كذبه. فاللسان سيُصاب بالأذى في كلا الحالتين سواء كان الإنسان صادقاً أو كاذباً. وقد يستطيع بعض المشعوذين استخدام حيل للخداع وتفادي الضرر، لكنّها تظل حيلًا لا علاقة لها بأي معيار علمي أو منطقي.
وهذه الممارسة لا أصل لها في الأديان السماوية، ولذلك، كان موقف دار الإفتاء المصرية واضحًا عندما أكدت أنّ “البشعة” لا أصل لها في الشرع، وأنها ممارسة محرمة، ولا يجوز اللجوء إليها بأي حال من الأحوال.
وإذا كان هناك اتجاه، كما ظهر في تصريحات صحفية خلال الأيام الماضية، إلى تقديم هذه الممارسة في الدراما المصرية خلال المرحلة المقبلة وربما خلال شهر رمضان القادم، فمن الضروري أن يتم تناولها باعتبارها نموذجًا للشعوذة والدجل وليس وسيلة للكشف عن الحقيقة. ولا بد من التأكيد على أنها جريمة في حق الإنسان الذي يتعرض لها، لأنها تؤدي إلى أذى نفسي وجسدي سواء كان صادقًا أم كاذبًا. ويمكن الاستشهاد مرة أخرى بفيلم البيضة والحجر، حيث ظهرت “البشعة” كأداة نفسية للترهيب للحصول على الحقائق وليس كوسيلة حقيقية للتحقق، وأن من يقوم بها هو في النهاية مجرد “نصاب” يلغب “بالبيضة والحجر”.






