بقلم د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة
في المقالات السابقة من هذه السلسلة تناولنا الإصدار الثالث من الدليل الاسترشادي الصادر عن المجلس الأعلى للجامعات، وناقشنا مفهوم الاستخدام المسؤول لتقنيات الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي. كما تطرقنا إلى الاستخدامات المسموح بها للذكاء الاصطناعي في الكتابة الأكاديمية. وفي هذا المقال نستكمل الحوار بالحديث عن الاستخدامات غير المسموح بها لهذه التقنيات في إجراء البحث وكتابته. ولكي نحدد الاستخدامات الممنوعة، ينبغي أولاً التمييز بين أمرين أساسيين: المحتوى البحثي المدعوم بالذكاء الاصطناعي، والمحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي. التمييز بين المفهومين السابقين هو الأساس الجوهري في تحديد ما يُعد استخدامًا مشروعًا وأخلاقياً، وما يُعد استخداماً مخالفًا لأخلاقيات البحث العلمي.
فالمحتوى البحثي المدعوم بالذكاء الاصطناعي هو ذلك المحتوى الذي كتبه الباحث بنفسه، لكنه استعان ببعض الأدوات الذكية لتحسين جودة النص، مثل أن يستخدم الباحث أدوات التدقيق اللغوي لمراجعة النص المكتوب وتصحيح الأخطاء اللغوية، أو إعادة الصياغة لبعض الفقرات لزيادة الوضوح، أو طلب اقتراح تحسينات في الأسلوب. في هذه الحالة يظل الباحث هو صاحب العمل الأصلي، ولا يتعارض هذا الاستخدام مع مبدأ “الأصالة”، لأن الذكاء الاصطناعي هنا مجرد أداة مساعدة لتحسين المنتج النهائي. هذا النوع من الاستخدام مقبول عمومًا لدى معظم الناشرين والمنظمات الدولية المعنية بأخلاقيات البحث العلمي، شريطة الإفصاح الصريح عنه في متن البحث (في جزء المنهجية او الشكر والتقدير كما اشرنا سابقاً)، إذ يُعد عملاً أصيلاً لا يمس نزاهة البحث أو مصداقيته.
أما المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي، فهو الذي يكون فيه دور الباحث في إعداد النص منعدمًا أو محدودًا للغاية، بينما يقوم تطبيق الذكاء الاصطناعي بإنتاج أجزاء كبيرة من البحث أو حتى إنتاج النص كاملاً بناءً على توجيهات بسيطة من الباحث. ويتفق المهتمون بهذا الشأن أن هذا الاستخدام غير أخلاقي، لأنه ينتقص من الجهد البحثي الحقيقي، ويثير قلق المجتمع الأكاديمي بشأن مستقبل البحث العلمي في ظل الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي. ولهذا ترفضه معظم دور النشر واللجان الدولية لأخلاقيات البحث رفضًا قاطعًا.
وبناءً على ما تقدم من إيضاحات عن الفرق بين المفهومين، فإن الاستخدام المحظور للذكاء الاصطناعي في البحث العلمي هو الاستخدام الذي يؤدي إلى محتوى يتم إنشاؤه بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي، سواء تدخّل الباحث في تعديله أم لا، خصوصًا إذا لم تكن هناك أسباب بحثية واضحة تبرر هذا الاستخدام. كما أن بعض دور النشر تحظر استخدام الذكاء الاصطناعي كليًا في الأجزاء التي يُفترض أن تُظهر قدرات الباحث التحليلية والنقدية، مثل أقسام المناقشة، والتحليل، والخاتمة، وتسمح به فقط في الجوانب اللغوية والتحريرية.
ولا تقتصر قيود استخدام الذكاء الاصطناعي على الباحثين وحدهم، بل تشمل أيضًا المشرفين على الرسائل والمراجعين والمحررين. فمن واجب هؤلاء الحفاظ على دقة ومصداقية النشر الأكاديمي، وعدم استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في مراجعة المخطوطات أو المقترحات البحثية، لأن تحميلها على منصات الذكاء الاصطناعي قد يُهدد سريتها. ومع ذلك، يمكن الاستعانة بهذه الأدوات في مهام مساعدة مثل تنظيم التعليقات على البحث أو تحسين أسلوب كتابة التقرير. وبوجه عام، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مساعدًا في عمليات المراجعة والتحرير، لكنه لا يمكن أن يحل محلّ المحكِّم البشري.
وفي نهاية المطاف، تبقى مسؤولية الاستخدام الأخلاقي في يد الباحث نفسه، إذ يبقى الضمير المهني هو الرقيب الحقيقي على السلوك العلمي. فالبحث العلمي هدفه الأسمى هو خدمة المجتمع لا مجرد الحصول على الدرجات أو الترقيات، وإذا التزم الباحث بهذا المبدأ، فسيظل محافظًا على قيم النزاهة والشفافية التي تُعد جوهر أخلاقيات البحث العلمي.







