
بقلم د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة
استكمالًا لما بدأناه في المقال السابق حول أهمية الدليل الاسترشادي لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي والبحث العلمي، الصادر عن المجلس الأعلى للجامعات في نهاية الشهر الماضي بهدف وضع إطار منظم للتعامل مع هذه التقنيات داخل الجامعات والمراكز البحثية، نتابع في هذا المقال مناقشة بعض القضايا المحورية التي أثارها توظيف الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي. ويتركز الحديث في هذا المقال على قضيتين أساسيتين، هما: الإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة في إنجاز البحث العلمي، وإمكانية إدراج الذكاء الاصطناعي كمؤلف مشارك في البحوث، وذلك في ضوء ما ورد في دليل المجلس الأعلى، واستنادًا كذلك إلى أحدث دراسة دولية نُشرت في مجلة Advances in Simulation، تحت عنوان: الكتابة الأكاديمية بمساعدة الذكاء الاصطناعي، والتي قدّمت توصيات دقيقة للاستخدام الأخلاقي والمسؤول لهذه الأدوات في مجال النشر الأكاديمي.
في جزء هام من الدراسة الدولية تم استطلاع رأي الناشرين والمجلات الأكاديمية، حيث عرضت الدراسة مواقف الناشرين والمحررين العلميين من استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية في كتابة البحوث العلمية. وقد أجمع هؤلاء على أن توظيف هذه الأدوات أصبح من أهم القضايا المعاصرة شديدة الحساسية وتتطلب وضع ضوابط وتعليمات واضحة تنظم استخدامها داخل المجتمع الأكاديمي والبحثي، لضمان الحفاظ على النزاهة البحثية والأصالة الفكرية في الأعمال المنشورة. كما قام الباحثون القائمون على الدراسة الدولية بمراجعة واسعة للأدبيات العلمية التي تناولت هذا الموضوع، بهدف استخلاص المبادئ الأساسية التي يمكن أن تشكل الإطار الأخلاقي للاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي في الكتابة الأكاديمية.
وأظهرت نتائج الدراسة أن معظم الناشرين الأكاديميين يشددون على نزاهة البحث العلمي ويعتبرونها حجر الزاوية في مصداقية المؤسسات الأكاديمية والمجلات العلمية، ولذلك يحرصون على الإعلان عن سياساتهم بوضوح فيما يخص أخلاقيات النشر وسلامته. وأشارت الدراسة كذلك إلى أن عددًا من الجهات الأكاديمية الرصينة، مثل اللجنة الدولية لمحرري المجلات الطبية (ICMJE)، ومجلات شبكة JAMA، والرابطة العالمية لمحرري المجلات الطبية (WAME)، وغيرها من الجهات الدولية الأخرى، قد بادرت بإصدار توصيات وتعليمات محددة تنظم كيفية التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية أثناء إعداد البحوث الأكاديمية. ومن خلال تحليل هذه التوصيات، صاغ الباحثون مجموعة من المبادئ الجوهرية التي تمثل الإطار الأخلاقي لاستخدام هذه الأدوات بمسؤولية، وهي المبادئ التي سيتم تناولها تفصيليًا في المقالات القادمة.
وبصفة عامة يأتي في مقدمة هذه المبادئ “الشفافية الكاملة في الإفصاح عن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي” خلال مراحل إعداد البحث العلمي. فهذه الشفافية هي الضمانة الأساسية للنزاهة الأكاديمية، إذ يُطلب من الباحث الذي استعان بأي من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، سواء في التحليل أو الصياغة أو تحرير النصوص، أن يُفصح بوضوح عن ذلك ضمن بحثه. وتشير التوصيات إلى أن أفضل موضع لهذا الإفصاح هو قسم المنهجية (Methodology)، حيث يستطيع القارئ من خلاله فهم طبيعة مساهمة الذكاء الاصطناعي في إنجاز العمل البحثي والوصول للنتائج. وعلى جانب آخر تسمح بعض المجلات بالإشارة إلى ذلك في قسم الشكر والتقدير (Acknowledgments)، ولكن يرى العديد من الباحثين أن الإفصاح عن الاستخدام في قسم المنهجية أكثر فاعلية ووضوحًا، لأن القرّاء عادة ما يولون اهتمامًا أكبر لهذا القسم من قسم الشكر والتقدير، مما يزيل أي لبس أو شك بشأن أصالة المحتوى العلمي.
ومن الملاحظ أيضا أن بعض المجلات بدأت خلال الأعوام القليلة الماضية بالسماح بإضافة الذكاء الاصطناعي كمؤلف مشارك ضمن قائمة المؤلفين، إلا أن غالبية الباحثين والناشرين يتفقون على أن هذا الإجراء غير مستحب من الناحية الأكاديمية، لأن أدوات الذكاء الاصطناعي، رغم قدرتها على توليد نصوص جديدة، لا يمكن أن تتحمل المسؤولية الفكرية أو القانونية عن محتوى البحث. وبذلك فهي لا تستوفي شروط التأليف العلمي المعترف بها، والتي تقوم على الإبداع والمساءلة والالتزام الأخلاقي. ولهذا، امتنعت العديد من المجلات العلمية مؤخرًا عن قبول إدراج الذكاء الاصطناعي كمؤلف، مكتفية بالمطالبة بذكر دوره كأداة مساعدة ضمن المنهجية أو قسم الشكر والتقدير.
وتؤكد الأدبيات في هذا السياق على أن جوهر البحث العلمي يجب أن يظل إنسانيًا، يقوم على الإبداع الفكري والمساهمة الأصلية للباحثين. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يُستخدم كأداة مساعدة للمراجعة اللغوية وتحسين الصياغة أو تسريع بعض المهام التقنية، لكنه لا يمكن أن يحل محل الجهد العقلي والإبداعي للإنسان، الذي يمثل القيمة الحقيقية وراء كل إنجاز علمي.
وختاماً نؤكد أن الاتجاه العام السائد بين الناشرين والمجلات العلمية هو تشجيع الاستخدام الأخلاقي والمنضبط لأدوات الذكاء الاصطناعي في كتابة البحوث، مع التأكيد على الإفصاح الكامل والمسؤول عن استخدامها، وأن يبقى الباحث هو المسؤول الأول عن دقة ومصداقية ما يُنشر تحت اسمه. وبهذا الأسلوب، يمكن للمجتمع الأكاديمي أن يحافظ على ثقة القرّاء في البحوث العلمية، وأن يصون مكانة العلم في عصر التكنولوجيا الذكية.