تقارير

أ.د الهلالي الشربينى الهلالي يكتب .. من المرونة التنظيمية إلى التنمية المستدامة في المؤسسات الحكومية

رؤية في سياق بعض النظريات البين تخصصية

بقلم أ.د الهلالي الشربينى الهلالي

في ظل ما يشهده العالم من تحولات اقتصادية، وبيئية، واجتماعية متسارعة، أصبحت المؤسسات الحكومية مطالبة بإعادة النظر في نماذجها الإدارية التقليدية، والانتقال نحو أنماط أكثر مرونة وكفاءة، وفى هذا السياق تُعد المرونة التنظيمية إحدى أهم السمات التي يجب أن تتوافر في المؤسسات كى تكون قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق الأهداف طويلة الأجل؛ وعلى رأسها التنمية المستدامة.

والمرونة التنظيمية هي مفهوم يشير إلى قدرة المنظمة على الاستجابة الفعالة للتغيرات الداخلية والخارجية، من خلال إعادة تشكيل عملياتها وبُناها التنظيمية بما يتوافق مع المتغيرات الجديدة، وبصياغة أخرى هي قدرة المنظمة على امتصاص الصدمات، والتكيف مع التغيرات البيئية، والاستمرار في الأداء، والتعلم من التجربة، بما يضمن استدامة عملها ونجاحها في بيئة معقدة ومتقلبة.

وتعرف التنمية المستدامة بأنها التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها، وتقوم على ثلاثة أبعاد مترابطة،تشمل: البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد البيئي. وتتطلب هذه التنمية في السياق الحكومي إدارة رشيدة للموارد، وحوكمة فعالة، ومشاركة مجتمعية واعية.

ومع أن مفهوم المرونة ظهر في البداية في مجالات مثل علم البيئة وعلم النفس، إلا أنه وجد طريقه سريعًا إلى علم التنظيم، مستفيدًا من عدد من النظريات المعاصرة، لا سيما نظريات: النظم؛ والفوضى والسيبرنيطيقا الثانية، ومن هنا يتمثل الهدف المنهجي لهذا المقال في الربط بين الأطر النظرية (النظم، والفوضى، والسيبرنيطيقا) وبين الواقع التطبيقي في المؤسسات الحكومية، بما يجعل من المرونة التنظيمية مدخلاً استراتيجياً لتحقيق التنمية المستدامة، خاصة في البيئات الحكومية ذات التعقيد الإداري والتشريعي.

وتضم المرونة التنظيمية أبعاد متعددة، منها:
المرونة الهيكلية؛ أي القدرة على تعديل الهياكل الإدارية والوظيفية،
والمرونة التشغيلية؛ أي القدرة على تغيير العمليات والإجراءات وفقًا للمواقف الطارئة،
والمرونة الاستراتيجية؛ أي القدرة على التكيف مع التغيرات المستقبلية والاستعداد للتعامل مع المخاطر،
والمرونة البشرية؛ أي القدرة على تمكين الموارد البشرية وتدريبها على مواجهة التغير أو التغيير.
وتتضح العلاقة بين المرونة التنظيمية والتنمية المستدامة في ضوء بعض النظريات الحديثة في كون الأولي تمثل آلية لتحقيق أهداف الثانية، كما أنها تمكن المؤسسة من الاستجابة للتغيرات والمخاطر المختلفة، وإعادة توجيه السياسات العامة لمواكبة احتياجات المجتمع، وتبني نماذج إدارية مبتكرة تراعي البعد البيئي والاجتماعي، ولتحقيق ذلك تنطلق المرونة التنظيمية من مجموعة من النظريات البين تخصصية،
أهمها:

 نظرية النظم، (Systems Theory)
وترى أن المرونة تعد جزءًا من رؤية الأنظمة المفتوحة التي ترى أن المنظمة تمثل كيان يتفاعل باستمرار مع بيئته، ويستقبل منها مدخلات، ويحوّلها إلى مخرجات، مع وجود آليات تغذية راجعة لضبط الأداء، كما ترى أيضًا أن معظم المنظمات ليست أنظمة خطية بسيطة، بل كيانات معقدة تظهر فيها أنماط سلوك غير متوقعة نتيجة التفاعل بين مكوناتها، ومن هنا تنبع الحاجة إلى مرونة ذاتية وقدرة على التكيف المستمر.

 نظرية الفوضى (Chaos Theory) ،
وترى أن الأنظمة قد تبدو عشوائية ولكنها تخضع لقوانين داخلية خفية، كما أنها تنطلق من فرضية أن أي تغيّرات صغيرة في البداية قد تؤدي إلى نتائج بعيدة غير متوقعة وهو مايطلق عليه في إطار هذه النظرية مصطلح (تأثير الفراشة Butterfly Effect )،والمقصود به أن تغيرًا صغيرًا جدًا في البداية يمكن أن يؤدي إلى نتائج كبيرة وغير متوقعة لاحقًا، وبتعبير مجازى هو أن رفرفة جناح فراشة في البرازيل قد تُحدث بعد أسابيع إعصارًا في تكساس بالولايات المتحدة، بمعنى أن النظم الديناميكية المعقدة (كالمؤسسات أو الطقس أو الاقتصاد) يمكن أن تتأثر بتغيرات طفيفة جدًا في البداية، لكن هذه التغيرات قد تتضخم عبر الزمن بسبب الترابطات الداخلية للنظام.

وهذا ينطبق على السياقات التنظيمية التي تشهد اضطرابات مفاجئة؛ فقد يبدو قرارًا صغيرًا (مثل تعديل إجراء إداري أو تغيير بند في لائحة داخلية) شيئًا بسيطًا، لكنه – بمرور الوقت – قد يُحدث تغييرات ضخمة في أداء المؤسسة أو قدرتها على التكيف.

وبالتالي فالمرونة التنظيمية تعني هنا الاستعداد للتعامل مع آثار التغييرات حتى الصغيرة غير المتوقعة، وكذا الانتقال من مجرد الاستجابة للأحداث إلى إدارة الفوضى، وإدارة الفوضى هنا لا تعني السيطرة الكاملة، بل التعايش مع الفوضى من خلال اتباع سلوك ذاتي التنظيم تُستبدل من خلاله الرؤية الخطية لرسم السياسات برؤية ديناميكية تتقبل الفوضى كأداة للتجديد؛ وبهذه الطريقة يكون للمؤسسة القدرة على التكيف مع ظروف لم يكن من الممكن لها أن تتنبأ بها أو تتحكم فيها بالكامل.
وتتجلى علاقة هذه النظرية مع المرونة التنظيمية في أنها ترى أن النظام (المؤسسة) يمكن أن يتحول من حالة الاستقرار إلى حالة من اللايقين والفوضى بسبب تغييرات طفيفة، وأن المؤسسات المرنة تكون قادرة على العمل في حالة الفوضى دون انهيار، بل وتحويل الفوضى إلى فرصة، ومن ثم فالفوضى عندها ليست عدواً، بل محفزاً على الإبداع وإعادة التنظيم، وهو ما يعكس جوهر المرونة التنظيمية.

 نظرية السيبرنيطيقا الثانية (Cybernetics) ،
وتركز على كيفية التنظيم الذاتي والتكيف داخل الأنظمة، كما تؤكد على أن الأنظمة القادرة على مراقبة وتعديل سلوكها الداخلي هي الأكثر مرونة، وتتضح علاقة هذه النظرية مع المرونة التنظيمية في أنها تهتم بالتنظيم والوعي الذاتي داخل النظام، وأن المرونة التنظيمية تعتمد على قدرة المنظمة على رصد بيئتها الداخلية والخارجية وتعديل سلوكها استنادًا لذلك، أي القدرة على التعلم والتحول المستمر، كما تؤكد هذه النظرية على أن القيادة، وأعضاء المؤسسة يؤثرون على سلوك النظام، مما يتسق مع فكرة أن المرونة تأتي من داخل المنظمة وليس فقط من خارجها.
ويمكن إجمال التحديات التي تواجه تحقيق المرونة التنظيمية في المؤسسات الحكومية في: البيروقراطية والجمود الإداري، وضعف نظم تقييم الأداء، ومقاومة التغيير من قبل العاملين، وغياب القيادات التكيفية، ونقص التمويل والدعم المؤسسي للتحول المستدام.

ولكى يتسنى لأي مؤسسة مواجهة هذه التحديات وتعزيز المرونة لتحقيق التنمية المستدامة يتطلب الأمر عدة أمور منها :إصلاح إداري شامل يرتكز على إعادة تصميم الهياكل والسياسات، وتعزيز قدرات الموارد البشرية عبر التدريب وبناء ثقافة مؤسسية داعمة للتغيير، وإدخال أدوات رقمية لدعم اتخاذ القرار الفوري والفعال، وتكامل السياسات الحكومية مع أهداف التنمية المستدامة وفق رؤية وطنية شاملة، هذا بالإضافة إلى ضرورة تبني الحكومات لنموذج “الحوكمة المرنة” كإطار لتحقيق التنمية المستدامة، وتطوير مؤشرات لقياس المرونة التنظيمية وربطها بأهداف التنمية المستدامة، ودمج مفاهيم المرونة والتكيف في سياسات وبرامج التدريب الحكومي، وتشجيع الشراكة بين القطاعات العامة والخاصة لتبادل الخبرات في مجال المرونة المؤسسية، وإنشاء وحدات للرصد والتقييم المستدام لمتابعة أداء المؤسسات وفقًا لمبادئ المرونة والتنمية.
ومن الأمثلة التطبيقية على المرونة التنظيمية في المؤسسات الحكومية:

التجربة البريطانية في إصلاح الخدمة المدنية؛ حيث قامت الحكومة البريطانية بإنشاء وحدات للابتكار والسياسات المستقبلية داخل الوزارات، بحيث تكون هذه الوحدات قادرة على التكيف مع التحولات المفاجئة في سوق العمل والبيئة الدولية،
والتجربة السنغافورية في مواجهة الجوائح؛ حيث إنه خلال جائحة كوفيد-19 أظهرت سنغافورة قدرة عالية على إعادة هيكلة أنظمتها الصحية والإدارية بسرعة، حيث تم دمج الحلول الرقمية والتقنيات الذكية في متابعة الحالات واتخاذ القرارات الفورية؛
والتجربة المصرية في التحول الرقمي الحكومي؛ حيث بدأت الحكومة المصرية بتطبيق التحول الرقمي في الخدمات الحكومية (مثل منصة مصر الرقمية)، بما يعزز من كفاءة الأداء ويحد من البيروقراطية، وهذه الخطوة تعكس توجهًا نحو المرونة الهيكلية من خلال إعادة تصميم الإجراءات والسياسات.

وفي ضوء ما تقدم يمكن الجزم بأن المرونة التنظيمية ليست فقط ضرورة إدارية، بل شرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة في المؤسسات الحكومية، ومن ثم فإن تطوير الهياكل والسياسات العامة بطريقة مرنة يُعد خطوة حاسمة نحو مستقبل أكثر توازنًا وعدالة وفعالية في المؤسسات الحكومية. ومن ثم فإن مستقبل هذه المؤسسات سيتوقف على مدى قدرتها على دمج المرونة كقيمة مؤسسية دائمة، لا كاستجابة مؤقتة للأزمات.

المراجع:
1-الهلالى، الهلالى الشربينى (2008) التخطيط الاستراتيجي وديناميكية التغير في النظم التعليمية ـ الدار الجامعية، الإسكندرية.
2-الزهراني، أحمد (2021). “المرونة التنظيمية كمدخل للتغيير الإداري في القطاع العام”. مجلة الإدارة الحكومية، العدد 55.
3-عبد العزيز، منى (2022). دور القيادة المرنة في دعم خطط التنمية المستدامة. المجلة العربية للتنمية، المجلد 19.

 أ.د الهلالي الشربينى الهلالي
أستاذ التخطيط التربوى والإدارة التعليمية
بجامعة المنصورة
ووزير التربية والتعليم والتعليم الفنى سابقا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى