مقالات كبار الكتاب

د. محمود السعيد يكتب .. حوكمة التعليم العالي في مصر منذ عام 2014 – الجزء الثالث

د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة

في المقالين السابقين، قدمنا تحليلا للعديد من المبادرات والممارسات المؤسسية الجامعية التي كانت لها دور فاعل في تعزيز مبادئ الحوكمة داخل مؤسسات التعليم العالي في مصر منذ عام 2014 وحتى الآن في إطار توجيهات القيادة السياسية. وشملت هذه المبادرات الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية في إدارة العملية التعليمية، ودمج أدوات الذكاء الاصطناعي في العمليات التعليمية والإدارية، فضلاً عن مبادرات إنشاء الجامعات الأهلية التي تربطها علاقات تنظيمية مع الجامعات الحكومية، بهدف توسيع نطاق خدمات التعليم العالي وتقديم نماذج جديدة من المؤسسات الأكاديمية التي تتوافق مع الاحتياجات الحديثة للمجتمع وسوق العمل، كما كانت هناك عدة مبادرات نوعية مثل مبادرة جريس، التي تهدف إلى تمكين الشباب من فهم مفاهيم الحوكمة وتبني آليات محاربة الفساد، بالإضافة إلى تأسيس شركات جامعية تحت مظلة قانون حوافز العلوم والتكنولوجيا والابتكار، بهدف تعزيز منظومة البحث العلمي والابتكار في مصر، وتطوير سياسات حماية الملكية الفكرية بما يتناسب مع متطلبات عصر المعرفة، بالإضافة إلى تحسين الهيكل التنظيمي لمجال المراجعة الداخلية والحوكمة، حيث عملت جميع الجامعات على إنشاء إدارات متخصصة لهذه الأغراض، ضمن هياكلها التنظيمية، لتعزيز الشفافية والرقابة الداخلية.

وفي الجزء الثالث من تحليلنا، ننتقل إلى استعراض أبرز التحديات التي يجب أن تواجهها المؤسسات التعليمية المصرية لضمان استمرارية ونجاح تجربة الحوكمة وتحقيق أقصى استفادة ممكنة منها. يتمثل التحدي الأول في وجود بعض الكيانات التعليمية الوهمية والمضللة، والتي تقوم بتقديم شهادات مزورة أو وعود كاذبة بفرص عمل وهمية. وعلى الرغم من قلة عدد هذه الكيانات إلا أنها قد تشوه الصورة العامة وتقوض كل جهود الدولة في تحسين ورفع مكانة التعليم العالي المصري. بل تجاوز الأمر ذلك إلى قيام بعض هذه الكيانات بمنح درجات شرفية مثل الدكتوراة الفخرية، التي لا تستند إلى أساس علمي أو مؤسسي، مما يضر بمصداقية وقيمة هذه الشهادات، ويضر بموثوقية منظومة التعليم ويهدد تطور الحوكمة داخل المؤسسات التعليمية. وفي مواجهة هذا التحدي، تبذل الدولة جهودًا كبيرة لمكافحة هذه الكيانات من خلال متابعة مستمرة، وإغلاقها فورًا عند ثبوت تورطها، مع قيام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بتحديث القوائم الخاصة بالمؤسسات المعتمدة علنًا وبشكل مستمر، ونشرها بشكل واسع بين فئات المجتمع، بهدف حماية الطلاب وأولياء الأمور من الوقوع ضحايا لهذه الكيانات غير القانونية. إلا أنه وبالرغم من كل الجهود مازلنا نرى من فترة لأخرى بعض من هذه الكيانات الوهمية.

أما التحدي الثاني فيتمثل في ضغط الطلب على التعليم العالي، والذي يفرضه النمو السكاني الكبير واستضافة مصر لملايين المهاجرين واللاجئين نتيجة للأوضاع السياسية والأمنية في العديد من دول الجوار. وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الحكومة المصرية لاستيعاب هذه الزيادة عبر زيادة عدد الجامعات، سواء الحكومية أو الأهلية أو التكنولوجية، إلا أن القدرة على تلبية هذا الطلب ليست في أفضل حالاتها، وهو ما ينعكس في تكدس الطلاب داخل الجامعات الحكومية تحديدا وفي الكليات النظرية بصورة أوضح، الأمر الذي ينعكس سلبًا على فرص التوظيف وسوق العمل بشكل عام. لمواجهة هذا التحدي، من الضروري الاستمرار في التوسع الواعي والمنظم لإنشاء الجامعات التكنولوجية، التي تعد ضرورة لمساندة عملية التنمية، مع ضمان توافق هذه المؤسسات مع المعايير والمقاييس العالمية، بالإضافة إلى تعزيز ودعم الجامعات القائمة من خلال تحسين معايير الجودة، وتطوير مناهجها وبرامجها بما يتواكب مع متطلبات السوق المحلية والدولية، بما يضمن توازنًا بين الجانب النظري والجانب العملي.

أما التحدي الثالث، فهو تقاعس بعض المؤسسات التعليمية عن تحديث وتطوير المناهج والبرامج الأكاديمية بشكل مستمر لمواكبة التغيرات السريعة في سوق العمل، خاصة في ظل التوقعات بخلق حوالي 69 مليون فرصة عمل جديدة خلال السنوات الخمس القادمة، ومع الأخذ في الاعتبار أن هناك حوالي 83 مليون وظيفة ستتم إلغاؤها، مما يجعل من الضروري أن تكون المؤسسات التعليمية أكثر مرونة واستجابة لمتطلبات العصر. فإذا لم تتماشى المناهج والبرامج التعليمية مع متطلبات سوق العملي المستقبلي، فإن المؤسسات التعليمية ستواجه خطر التراجع وتفقد قدرتها التنافسية، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع تصنيفاتها العالمية. لذلك، يجب أن تركز الجامعات على تحسين جودة التعليم، وتطوير مناهجها وبرامجها الدراسية باستمرار، لتلبية احتياجات سوق العمل، وكذلك تعزيز التعاون مع القطاعات الصناعية والتجارية من خلال التحالفات الإقليمية التي شكلتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، لضمان استمرارية وتطابق جودة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل.

أما التحدي الأخير، فهو ضعف البنية التحتية الرقمية في بعض المؤسسات التعليمية، بالإضافة إلى نقص الكوادر المدربة على التعامل مع متطلبات التحول الرقمي. فعلى الرغم من تبني عدة جامعات استراتيجيات للتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي إلا أنه ما زال العديد منها يعاني من بنية تحتية غير مؤهلة لهذا الأمر، وهو ما يستدعي تعاوناً وثيقاً بين وزارتي التعليم العالي والاتصالات من أجل تهيئة بنية تحتية تساعد على تنفيذ هذه الاستراتيجيات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى