مقالات كبار الكتاب

د. محمود السعيد يكتب ..حوكمة التعليم العالي منذ عام 2014

د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة

منذ عام 2014، تبنت الدولة المصرية نهجًا إصلاحيًا شاملًا، جعل من الشفافية ومكافحة الفساد أولوية استراتيجية ضمن خططها لتحقيق التنمية المستدامة في كافة القطاعات. ويعود هذا التوجه إلى قناعة راسخة للقيادة السياسية بأن الفساد يُشكّل عائقًا رئيسيًا أمام التقدم، ويقوّض الثقة بين الدولة والمجتمع. وانعكست هذه الرؤية في إطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد برعاية فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد الفتاح السيسي، تأكيدًا على التزام الدولة بنهج الوقاية والمواجهة الشاملة لكافة أشكال الفساد، والاستارتيجية مرت بثلاث مراحل متتالية منذ عام 2014 وحتى استحقاق رؤية مصر 2030. والمرحلة الثالثة من الاستراتيجية بدأت في يناير 2023 ومستمرة حتى ديسمبر 2030.

وتتسم المرحلة الثالثة من الاستراتيجية بخمسة أهداف استراتيجية، حيث يركّز الهدف الرابع منها على تعزيز الوعي المجتمعي بمخاطر الفساد وتمكين المواطنين من المشاركة الفعالة في مكافحته. ويُترجم ذلك من خلال تفعيل الدور التوعوي للمؤسسات التعليمية والبحثية، إلى جانب الإعلام، والثقافة، والمؤسسات الدينية والرياضية، والقطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني.

وقد كان قطاع التعليم العالي والبحث العلمي من أكثر القطاعات استجابةً للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، إذ التزمت الجامعات المصرية منذ المرحلة الأولى للاستراتيجية بتعزيز قيم النزاهة والشفافية والمساءلة والحكم الرشيد داخل كلياتها ومراكزها البحثية، واستمر قطاع التعليم العالي في تطوير سياساته وممارساته حتى اتضحت معالم ذلك بشكل جلي في المرحلة الثالثة. ويهدف هذا المقال إلى استعراض ثلاث من أبرز الممارسات الناجحة التي ساهمت في ترسيخ الحوكمة داخل مؤسسات التعليم العالي، على أن يتم استكمال استعراض ممارسات أخرى في مقالات لاحقة.

الممارسة الأولى كانت دمج الذكاء الاصطناعي في سياسات الجامعات، حيث أطلقت عدة جامعات مصرية استراتيجيات لتوظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم والحوكمة، أبرزها استراتيجية جامعة القاهرة للذكاء الاصطناعي، وذلك تماشيًا مع أهداف رؤية مصر 2030. ويسهم الذكاء الاصطناعي في دعم الحوكمة من خلال تحسين كفاءة اتخاذ القرار، وتعزيز الشفافية في إدارة الموارد، وتطوير أدوات الرصد والتحليل والتنبؤ بالمخاطر.

أما الممارسة الثانية فكانت في إنشاء الجامعات الأهلية كأداة لتحديث التعليم العالي، حيث اتجهت الدولة نحو تأسيس جامعات أهلية تابعة للجامعات الحكومية، مثل “جامعة القاهرة الأهلية”، بهدف تقديم برامج دراسية جديدة ومتخصصة تتماشى مع متطلبات سوق العمل. وتمثل هذه الجامعات بيئة مرنة لتطبيق شراكات دولية مع جامعات ذات تصنيف عالمي، وتتيح فرصًا لتقديم برامج بينية ومتعددة التخصصات، كما تركز على ربط مخرجات التعليم باحتياجات التنمية المستدامة، لا سيما في المدن الجديدة.

أما ثالث الممارسات الناجحة التي نستعرضها في هذا المقال فكانت مبادرة جريس GRACE (المبادرة العالمية للتعليم وتمكين الشباب في مكافحة الفساد)، حيث تُعد مبادرة “GRACE” من أبرز المبادرات التي تم تنفيذها في مصر بالتعاون بين هيئة الرقابة الإدارية، ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وشملت 10 جامعات حكومية وخاصة. وتهدف المبادرة إلى اعتماد التعليم والتدريب كوسائل رئيسية للوقاية من الفساد، مع تعزيز وعي الطلاب بدورهم في مواجهته، وتمكين الجامعات من إدماج ثقافة مكافحة الفساد ضمن المناهج والأنشطة الطلابية.

وختاما نؤكد أن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي أُطلقت في 2014 مثلت نقطة انطلاق محورية لتفعيل مبادئ الحوكمة داخل مؤسسات التعليم العالي. فقد سعت الجامعات المصرية استجابة لتوجهات القيادة السياسية إلى ربط السياسات التعليمية بقيم النزاهة والمساءلة والشراكة المجتمعية، وذلك تماشيا مع الهدف الرابع من أهداف الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد والمعني بنشر الوعي المجتمعي بخصوص الوقاية من الفساد. وهذا الدور الهام الذي لعبته الجامعات المصرية تحت مظلة ورعاية قطاع التعليم العالي والبحث العلمي لم يكن فقط من منطلق كونها مؤسسات أكاديمية، بل أيضًا بوصفها مراكز لصناعة الوعي وإنتاج المعرفة والتنمية المجتمعية. فقد جعلت الجامعات من الحوكمة عنصر أساسي في تحديث منظومة التعليم العالي وضمان فعاليتها في بناء الإنسان المصري، وتعزيز القيم الوطنية، وترسيخ ثقافة المصلحة العامة.

وللحديث بقية في مقالات مقبلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى