مقالات كبار الكتاب

د. محمود السعيد يكتب .. التعليم ومواجهة الفكر المتطرف

بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة

معظم جيلنا نشأ في بيئة ثقافية ومجتمعية تعلي من شأن الوسطية، وتضعها في مرتبة رفيعة بين الفضائل الإنسانية. فالوسطية هيّ الأساس المتين لأي سلوك قويم، والطريق الآمن الذي يسلكه الإنسان للابتعاد عن الإفراط والتفريط في كافة أمور حياته. وتعلمنا منذ الصغر، في الصفوف الأولى من التعليم، أن الشجاعة ليست تهوراً ولا خوفًا مبالغًا فيه، بل هي موقف متوازن يقع بين الجبن والطيش، كما أن الكرم ليس بذخًا ولا شحًا، بل قيمة وسطى توازن بين العطاء وترشيد الموارد. وهذا القيم أكدت في وعينا أن الاعتدال لا يعتبر ضعفًا، بل هو أعلى درجات القوة، وهو الذي يمنع المجتمع من الانزلاق نحو الفوضى أو الانغلاق. ومن هنا، كانت المناهج التعليمية تبنى على فكرة محورية مفادها أن غرس قيم الوسطية بين الطلاب ليست خيارًا ثانويًا في المخرجات التعليمية المستهدفة للمقررات والمناهج، بل كانت دائمًا ضرورة لبناء طلاب أسوياء تسهم في تنمية المجتمع واستقراره.

وعلى النقيض من ذلك، كانت المناهج التعليمية ترشدنا إلى أن الفكر المتطرف هو حالة انحراف خطير عن النهج القويم. فالمتطرف في أقواله أو أفعاله يتسم بالتشدد والانغلاق، ويميل إلى رفض كل من يختلف معه. ومع مرور الوقت، قد يتحول سلوكه إلى نزعة عدوانية وربما تتطور إلى العنف، بل وإلى تبني ممارسات إرهابية إذا توفرت للشخص البيئة المناسبة لذلك. والتطرف لا ينشأ فجأة، بل غالبًا ما يتجذر في بيئات تفتقر إلى ثقافة الحوار وتغيب عنها أسس التعليم النقدي، حتى وإن كانت المؤسسات التعليمية التي ينتمي إليها الشخص تصنّف ضمن النخب ومؤسسات القمة، فغياب الوعي والانفتاح يفتح المجال لتغلغل الفكر المنحرف.

إن التطرف يتغذى من عدة عوامل مترابطة، يأتي في مقدمتها انخفاض مستوى التعليم وضعف مخرجاته. كما تسهم الظروف الاقتصادية الصعبة مثل الفقر والبطالة في جعل الأفراد أكثر عرضة للتأثر بأي خطاب متطرف خاصة إن لم يكونوا متسلحين بتعليم جيد. ولعل من أخطر مسببات التطرف في منطقتنا العربية استخدام الدين لأهداف سياسية من بعض الأفراد والجماعات، حيث تعمد هذه الجماعات إلى توظيف المشاعر الدينية وتفسير النصوص بما يخدم أجنداتها، مما يضلل الكثيرين ويجعلهم يعتقدون بأنهم يطبقون صحيح الدين، بينما هم في الحقيقة لا يحسنون صنعاً.

وفي ظل الثورة الرقمية الحديثة، ظهرت وسائل جديدة أكثر خطورة في نشر الفكر المتطرف، أبرزها الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت منصات لترويج الشائعات وصناعتها ونشر الخطابات المتشددة بين الشباب، وأصبحت أهم أداة من أدوات الحروب الالكترونية التي تستهدف زعزعة المجتمعات من الداخل دون طلقة واحدة.

ولمواجهة التطرف وتعزيز الوسطية، لا بد من استراتيجيات واضحة لتعزيز قيم الاعتدال، تبدأ من التعليم. فغرس ثقافة الاعتدال في عقول النشء منذ المراحل الأولى من التعليم، وذلك من خلال المناهج والأنشطة المدرسية والجامعية، سوف تسهم بشكل قوي في بناء جيل يرفض التطرف وينحاز بطبيعته للتسامح والتنوع. ويجب ألا تُستثنى التخصصات العلمية من هذا التوجه، لأن الفكر الوسطي لا يقتصر على المواد النظرية أو الدينية، بل هو رؤية شاملة للحياة.

كما يجب أن يكون للإعلام دور فعال في نشر الخطاب المعتدل ومواجهة روافد التطرف. وهنا يبرز أيضًا دور الدولة في دعم المؤسسات التعليمية والإعلامية، وتعزيز قدرتها على تقديم محتوى يعكس قيم التعددية والانفتاح. ولا يمكن أن نغفل أهمية تعاون مؤسسات المجتمع المدني، خاصة المؤسسات الدينية، في تصحيح المفاهيم المغلوطة، وتفكيك الخطاب المتشدد، عبر خطاب ديني عقلاني وإنساني يوضح المعاني الحقيقية للنصوص المقدسة.
وفي النهاية، ستبقى الوسطية هي الركيزة الأساسية لأي مجتمع يرغب في تحقيق الأمن والاستقرار. فهي ليست فقط أداة لمواجهة التطرف، بل هي أسلوب حياة يجمع بين العدالة والرحمة، ويفتح الباب أمام التعايش والتكامل لصالح المجتمع. وإذا أردنا أن ننتصر على التطرف، فلا بد أن نجعل من الوسطية ثقافة راسخة، ومن الاعتدال نهجًا دائمًا، ومن الحوار وسيلتنا الأهم لفهم العالم وبناء مستقبل مشترك أكثر أمنًا وسلامًا. ولا يمكن أن يتم ذلك دون مناهج تعليمية تركز في مخرجاتها التعليمية المستهدفة على نشر قيم الوسطية والاعتدال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى