
بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة
شهدت الأعوام الأخيرة إعلان عدد من الجامعات المصرية عن تقدمها الملحوظ في التصنيفات العالمية للجامعات، مثل تصنيف شنغهاي الصيني، وتصنيف التايمز البريطاني للتعليم العالي (THE)، وتصنيف كيو إس (QS). ورغم أهمية هذه الإنجازات، فإن تحليل معايير تلك التصنيفات يكشف أن الركيزة الأهم في تحسين ترتيب الجامعات عالميًا تتمثل في حجم ونوعية الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية المحكمة والمدرجة ضمن قواعد البيانات الدولية وأدلة الفهرسة العلمية، مثل Clarivate Analytics وScopus الصادرة عن Elsevier. وتتنافس الجامعات والمؤسسات البحثية في العالم، ومنها الجامعات المصرية، على إدراج مجلاتها العلمية ضمن هذه القواعد لما لذلك من تأثير مباشر على سمعة المؤسسة الأكاديمية وترتيبها في التصنيفات العالمية.
ولكن، ما جدوى هذا الاهتمام المتزايد بترتيب المجلات والجامعات المصرية؟ وما أهمية قواعد البيانات العلمية تلك؟ ولماذا لا تزال معظم المجلات المصرية خارج التصنيفات الدولية بنسبة كبيرة؟ وما السبيل إلى تجاوز هذا القصور؟
رغم التقدم الملحوظ الذي أحرزته الجامعات المصرية، وعلى رأسها جامعة القاهرة التي دخلت ضمن أفضل 400 جامعة عالميًا في تصنيف شنغهاي في الأعوام الأخيرة، فإن التصنيف العام للجامعات المصرية لا يزال دون مستوى الطموحات ولا يوازي مكانة مصر التاريخية والعلمية في المنطقة. ويظهر التحدي بوضوح حين نلاحظ أن عددًا من الجامعات في بعض الدول العربية تقدمت كثيرًا في هذه التصنيفات، رغم أن الجامعات المصرية أسبق منها في النشأة والتاريخ الأكاديمي. ويكمن الفرق في مدى حضورها البحثي الدولي، خاصة من خلال مجلات معترف بها في قواعد البيانات العالمية.
وتقوم قواعد البيانات وأدلة الفهرسة العالمية بدور أساسي في تحديد مكانة المجلات العلمية وجودة الأبحاث المنشورة بها. وتُعد المجلة المدرجة ضمن هذه القواعد وكأنها حاصلة على شهادة اعتماد دولية، تضمن للباحثين والقراء أن ما تنشره يلتزم بالمعايير العالمية في التحكيم العلمي، والنزاهة، والدقة، والإخراج الفني. ومن أبرز هذه القواعد قاعدة بيانات كلاريفيت أناليتكس ، والتي تستخدم معيارًا شهيرًا يُعرف بـمعامل التأثير (Impact Factor)، لقياس قوة المجلة العلمية وتأثيرها البحثي. وأيضا قاعدة بيانات سكوبس (Scopus)، وهي قاعدة شاملة للاستشهادات المرجعية، وتُستخدم على نطاق واسع منذ 2004 وتصدر عن دار النشر العالمية Elsevier. وكذلك دليل المجلات مفتوحة الوصول (DOAJ)، الذي يهتم بالمجلات التي تُتيح محتواها العلمي مجانًا، ويُعد مؤشرًا هامًا على دعم الشفافية والمعرفة المفتوحة.
وتعتمد هذه القواعد على نوعين من المعاييرو هي أولا المعايير الشكلية والإداري والتي: تتعلق بمواصفات النشر، وسياسات التحكيم، آليات التقديم، لغات النشر، شفافية إدارة المجلة، نسبة تمثيل هيئة التحرير من دول مختلفة، ومعايير أخلاقيات النشر. وثانيا معايير خاصة بالمحتوى والتأثير ويتم قياسها من خلال عدد الاقتباسات، معدل النشر، مدى استشهاد الباحثين بالمقالات، وتأثير المجلة في المجتمع الأكاديمي محليًا ودوليًا.
ورغم وجود مئات المجلات العلمية المصرية المسجلة والمعتمدة من قبل لجان الترقية بالمجلس الأعلى للجامعات، فإن الواقع يشير إلى أن 60 مجلة فقط منها مدرجة في قاعدة سكوبس، وبنسبة تقترب من 10% فقط، وهي نسبة متواضعة تعكس قصورًا واضحًا في دمج المجلات المصرية ضمن النظام البحثي العالمي. ويُعزى هذا الضعف إلى عدة عوامل، أبرزها أن غالبية الأبحاث في كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية تنشر باللغة العربية، في حين أن قواعد البيانات الدولية تُعطي الأولوية للمجلات التي تنشر بالإنجليزية. وكذلك غياب الناشر الدولي الذي يملك القدرة على ترويج المجلة وتوفير أدوات الفهرسة الرقمية الحديثة. وأيضا محدودية التمويل، مما يضعف من جودة الإخراج الفني والتحريري للمجلات. وأخيرا عدم كفاية التدريب والتحفيز للهيئات التحريرية للارتقاء بمستوى المجلات.
وفي ظل ذلك، برزت بعض المبادرات العربية، مثل معامل التأثير والاستشهادات المرجعية العربي (ARCIF)، والكشاف العربي للاستشهادات (ARCI)، والتي تهدف إلى فهرسة المجلات العربية، إلا أنها ما زالت في حاجة إلى اعتراف دولي بها.
إن تحسين ترتيب المجلات المصرية في قواعد البيانات الدولية يتطلب استراتيجية متكاملة متعددة المحاور، تتضمن اختيار أفضل الأبحاث المنشورة بالعربية وترجمتها إلى الإنجليزية ونشرها في مجلات دولية مرموقة. وكذلك تحسين جودة المجلات المحلية لتستوفي معايير الإدراج في قواعد البيانات الدولية. وتوفير دعم مالي وفني لتمكين المجلات من التعاقد مع ناشرين دوليين ذوي خبرة. وأخيرا تشجيع الجامعات على دعم مجلاتها وتبني معايير النشر الدولية في بنيتها التحريرية والتقنية.
ختاما نؤكد أن إدراج المجلات المصرية في قواعد البيانات الدولية يعزز من ترتيب الجامعات، ويرتقي بمكانة البحث العلمي، ويدعم القوة الناعمة للدولة، ويعكس صورتها كدولة منتجة للمعرفة لا مستهلكة لها فقط. وتحقيق هذا الهدف ليس بعيد المنال، بل يحتاج إلى إرادة مؤسسية، وشراكات دولية، واستثمار في البحث العلمي، بوصفه أداة رئيسة لبناء مستقبل أكثر تقدمًا ورقيًا.