مقالات كبار الكتاب

د. محمود السعيد يكتب .. البيروقراطية.. ما لها وما عليها

بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة

من أكثر النظم الإدارية التي نالت سمعة سيئة على مر السنين هو النظام البيروقراطي والذي نشأ في منتصف القرن الثامن عشر في أوروبا، وكان الهدف منه هو توحيد الإجراءات وتوزيع المسؤوليات في دواوين العمل الحكومية. وأتذكر أنه في إحدى محاضراتي عن مفهوم الحوكمة سألني أحد الحضور عن مدى ارتباط البيروقراطية بالفساد ومن ثم التراجع الاقتصادي للدول. وكانت إجابتي له هي أن البيروقراطية، مثلها مثل أي نظام إداري آخر، لها مزايا وجوانب إيجابية، والتطبيق السليم لها يحمي المسئول من مخالفة القانون كم يحقق العدالة في خدمة المواطنين، ومع ذلك فالبيروقراطية أيضا لها عيوب وتحديات في التطبيق قد تؤدي بالفعل إلى الترهل الإداري والفساد والتراجع الاقتصادي إذا لم تطبق بطريقة متوازنة ومرنة.

وفي هذا المقال أقدم للقارئ بعض فوائد وعيوب النظام وكيفية تعظيم الاستفادة من مميزاته ومواجهة عيوبه.

من أهم مزايا النظام البيروقراطي هو الاستقرار والاتساق في اتخاذ القرارات حيث توفر البيروقراطية نظاماً ثابتاً يتبع إجراءات وقواعد محددة وتسلسل هرمي يساعد في تحقيق مبدأ الحوكمة، مما يقلل من العشوائية في اتخاذ الإجراءات والقرارات ويساعد على اتخاذها بطريقة منهجية وعلمية سليمة. كما يحقق النظام البيروقراطي أيضا مبدأ مهم جدا من مبادئ الإدارة الرشيدة وهو الكفاءة التنظيمية، فالهيكل الهرمي في تقسيم العمل إلى وحدات متخصصة يؤدي إلى زيادة الإنتاجية والكفاءة من خلال بيئة عمل تحدد لكل فرد دوره وما هو متوقع منه. كما يضمن النظام البيروقراطي تحقيق مبدأ هام من مبادئ الحوكمة وهو المساءلة وذلك من خلال تحديد المسؤوليات بوضوح، ومحاسبة الأفراد على تصرفاتهم وقراراتهم، وهي المساءلة المطلوبة لضبط الأداء وتحقيق الأهداف المؤسسية. بالإضافة إلى ذلك فالبيروقراطية تساعد المؤسسة على تطبيق القوانين والعدالة وعدم التمييز، حيث يعتمد النظام البيروقراطي على القواعد والإجراءات التي تنطبق على الجميع بالتساوي. وأخيرا فإن النظام البيروقراطي يساعد المؤسسات الكبيرة في إدارة عملياتها بكفاءة، بفضل نظامها المنظم والإجراءات الموحدة والتي قد تفشل الأنظمة الإدارية الأخرى في تحقيقه بسبب الحجم الكبير للمؤسسة.

وبالرغم من المزايا السابقة للنظام البيروقراطي إلا أنه يتسم أيضا بمجموعة من العيوب والتي جعلت البعض يظن أن كلمة البيروقراطية مرادفة لعدم الكفاءة في أداء الجهاز الحكومي. إن العيب الأكثر انتشارا في النظم البيروقراطية هو البطء والتعقيد في الإجراءات حيث من الممكن أن تكون الدورة المستندية في ظل البيروقراطية بطيئة ومعقدة بسبب الإجراءات الطويلة والتسلسل الهرمي الكبير الذي يتطلب توقيع أو موافقة عدد كبير من الأفراد قبل اعتماد ورقة أو مذكرة، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تعطيل المصالح العامة والخاصة للمواطنين. ويمكن التغلب على بطء الدورة المستندية بتطبيق التوقيع الإلكتروني وهو أحد مستهدفات الدولة المصرية في الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد. أيضا قد يعاني النظام البيروقراطي من الجمود بسبب الالتزام الصارم بالقواعد وعدم المرونة في تطبيقها، وهو ما يؤدي في النهاية إلى صعوبة التكيف مع المتغيرات أو الابتكار. هذا الجمود يمكن أن يعوق الاستجابة السريعة للتحديات أو الفرص. كما يمكن ان يحدث مع مرور الزمن في تطبيق البيروقراطية ما يسمى بظاهرة الروتين الإداري والذي يؤدي إلى استنزاف موارد المؤسسة في إجراءات غير ضرورية، تكلف المؤسسة ملايين الجنيهات من أجل تحقيق إيرادات لا تتعدى آلاف الجنيهات. وأخيرا فإن النظم البيروقراطية تعاني من محدودية الإبداع وعدم التماهي مع الأفكار الجديدة أو الابتكارات بسبب القواعد الصارمة التي تفرض اتباع الإجراءات التقليدية.

ومن خلال هذه المقارنة بين مزايا وعيوب البيروقراطية نؤكد أنها نظام إداري يقدم مميزات عديدة للمؤسسات والمواطنين، كما أنه يعاني من بعض أوجه النقص، ولكنه يوفر هيكلًا إداريا قويًا وفعالًا لتشغيل المؤسسات الكبيرة، والتي يصعب فيها تنفيذ الأنظمة الإدارية الأخرى. ومن أكثر الانتقادات التي توجه للبيروقراطية هي أنها تعاني من محدودية المرونة المطلوبة في مجتمع يتطلع إلى الابتكار والتنمية المستدامة، ويحدث ذلك دائما عندما يبالغ العاملون في المؤسسة في الإجراءات المطلوبة في أعمالها، وهو ما يؤدي إلى أن تصبح الإجراءات والقواعد بمرور الوقت هي غاية في حد ذاتها وليست وسيلة لتحقيق العدالة وعدم التمييز، كما أن التمسك الحرفي بالقواعد والإجراءات قد يحرم المؤسسة من فرص التجديد والتطوير والابتكار.

ولكي نعظم الاستفادة من الجوانب الإيجابية للنظم البيروقراطية فيجب أن يكون هناك توازن بين التنظيم الجيد الذي تتسم به هذه النظم والقدرة على التكيف مع المتغيرات المجتمعية والاحتياجات المتطورة، وخصوصا ما يتعلق بالتطور التكنولوجي والتحول الرقمي وانتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى