
بقلم د. عبدالحليم قنديل
حتى وقت كتابة هذه السطور ، كان السجال الحربى الأعنف متصلا بين الكيان وإيران ، وكان الرئيس الأمريكى المهتاج “دونالد ترامب” منهمكا فى اجتماعات مجلسه للأمن القومى بغرفة عمليات البيت الأبيض ، ويوجه “إسرائيل” بالاستمرار فى ضرب إيران ، ويلوح بالانضمام معها ، ويوالى إنذاراته للقيادة الإيرانية ، ويطالبها بالتوقيع الفورى على إعلان استسلام غير مشروط ، وكان المرشد الإيرانى “على خامنئى” يصدر بيانا مكتوبا يقول لترامب ، أن إيران لن تستسلم لا بالحرب المفروضة ولا للسلام المفروض .
ولا أحد عاقل يصدق ، أن كيان الاحتلال “الإسرائيلى” شن الحرب على إيران بقراره ، وقد أعلن “ترامب” نفسه ، أن الحرب بدأت فجر اليوم الواحد والستين ، أى فى اليوم التالى لاكتمال مهلة الستين يوما ، التى أعطاها الرئيس الأمريكى إلى طهران لقبول مسودة اتفاق نووى جديد ، يجرى بمقتضاه تفكيك البرنامج النووى الإيرانى ، والتوقف تماما عن تخصيب اليورانيوم ، ونقل اليورانيوم المخصب إلى خارج إيران ، وهو ما رفضه المفاوض الإيرانى فى “مسقط” وغيرها ، وكانت الأنظار متجهة لجولة تفاوض إضافى فى يوم الأحد 15 يونيو 2025 ، وهو ما أدى لغفلة الإيرانيين عن الضربة القاسية المفاجئة فجر الجمعة 13 يونيو ، ونجاحها فى عملية “قطع رأس” مفزعة للقادة العسكريين وكبار العلماء النوويين ، وإلى أن مضت ساعات طويلة ثقيلة ، استعاد فيها النظام الإيرانى وعيه وتوازنه ، وملأ الشواغر فى مواقع القيادة ، وبدأ فى توجيه أول ضربة مضادة بالصواريخ الباليستية والفرط صوتية فى التاسعة مساء ، وهو ما صار نمطا متكررا فى الأيام التالية ، تضرب “إسرائيل” غالبا نهارا ، وترد إيران ليلا حتى الفجر ، وباستثناءات محدودة حتى اليوم ، بدا فيها أن إيران تغير تكتيكاتها فى استخدام مخزونها الهائل من الصواريخ والطائرات المسيرة المتقدمة ، مع نظم دفاع جوى معتلة ، وبانكشاف مريع فى جبهتها الداخلية ، واختراقات أمنية عميقة ، بدت نتاجا لعمل المخابرات “الإسرائيلية” والأمريكية والغربية فى الداخل الإيرانى ، عبر عشرين سنة مضت على الأقل ، تكونت معها طبقة متسعة بالآلاف من الجواسيس النشطين ، بعضها من قلب النظام الإيرانى نفسه ، وأغلبها من قوميات إيرانية مناوئة لهيمنة القومية الفارسية ، التى لا تشكل سوى أكثر قليلا من 40% بين السكان ، بينما الأغلبية من قوميات أصغر كردية وتركمانية وعربية وبلوشية وأذرية ، ممتدة بحضورها عبر حدود إيران من أفغانستان وباكستان إلى أذربيجان والعراق وتركيا وسواها ، وعندها ثارات تاريخية مع حكم طهران الفارسى ، وجرى تطويعها واستخدام أراضيها فى الحرب الجارية اليوم ، واتخاذها كنقاط انطلاق أقرب للهجمات الجوية على القلب الإيرانى ، وبالذات من المنشآت والقواعد الأمريكية فى العراق وسوريا ، ومن القاعدة “الإسرائيلية” الأكبر فى “أذربيجان” ، إضافة لجهد الجالية اليهودية الكبيرة نسبيا والمعارضات الفارسية ذاتها ، وبينها وبين نظام “الملالى” ثارات دم لا يتوقف ، خصوصا مع اختناق الوضع الاقتصادى والاجتماعى الإيرانى بسبب كثافة العقوبات الأمريكية والدولية المفروضة عبر أكثر من أربعين سنة مضت ، وكلها موارد بدت مستعدة متحفزة للانقضاض على حكم المرشد الإيرانى فى لحظة الحرب الراهنة ، التى تشنها “إسرائيل” بتكليف أمريكى ، وبأسلحة أمريكية متدفقة على مدار الساعة ، عبر جسور جوية وبحرية لا تهمد حركتها ، واستحضار لنحو نصف حاملات الطائرات الأمريكية إلى المنطقة من حول إيران وقربها ، وفى دعم الأسطولين الأمريكيين الخامس فى الخليج والسادس فى البحر المتوسط ، وفى استنفار حربى لأكثر من ستين قاعدة أمريكية فى المشرق والخليج العربيين ، ووصولا إلى قاعدة “دييجو جارسيا” فى المحيط الهندى ، وباستدعاء لأكثر من ثلاثين طائرة تزويد بالوقود فى الجو من قواعد أمريكا فى أوروبا ، وفى “دييجوجارسيا” ـ كما هو معروف ـ قاعدة انطلاق القاذفات النووية الأمريكية الأضخم من طرازى “بى.2″ و”بى. 52 ” ، وأخطرها ” بى.2″ القادرة على حمل قنابل يوم القيامة المعروفة باسم “جى . بى . يو 57” ، ووزنها 15 طنا وطولها ستة أمتار، ويمكنها اختراق تحصينات تحت الأرض إلى عمق 60 مترا ، وبدونها لا يمكن التفكير فى تدمير منشأة “فوردو” الإيرانية لتخصيب اليورانيوم ، وهى محفورة فى عمق الجبال الجرانيتية شرق مدينة “قم” الإيرانية ، وعلى أعماق يقال أنها تصل إلى مئات الأمتار ، وهى قلب البرنامج النووى الإيرانى ، وتعول “إسرائيل” على أمريكا وقاذفاتها النووية فى تدمير “فوردو” ، ولا أحد يستبعد أن يخضع “ترامب” لإلحاح “بنيامين نتنياهو” ، خصوصا أن إيران لا تبدى ميلا إلى الآن لقبول الإملاءات الأمريكية وشروط الاستسلام المهين .
وقد لا تبدى “إسرائيل” ، ولا صقور التفكير الاستراتيجى الأمريكى من نوع “جون بولتون” مستشار الأمن القومى فى ولاية ترامب الأولى ، قد لا يبدون ميلا إلى قبول تنازلات نووية فقط من طهران ، حتى لو أدت إلى توقف البرنامج النووى الإيرانى ، والسبب ظاهر جدا ، فقد تخطت إيران عتبة المعرفة النووية المعمقة من زمن ، وتكون لديها جيش هائل بعشرات الألوف من العلماء والمهندسين والفنيين النوويين ، ويمكنها بناء المزيد من المفاعلات وأجهزة الطرد المركزى فى أى وقت ، والتخصيب لما فوق نسبة 93% اللازمة لصناعة القنابل الذرية ، والفيصل هنا فى الإرادة المتوافرة لو تبقى النظام الحالى حيا ، ومن هنا توسعت مروحة الشروط الأمريكية “الإسرائيلية” ، وأضيف لهدف تفكيك البرنامج النووى تفكيكا مضافا لبرامج التصنيع الصاروخى والطائرات المسيرة ، مع تجديد العزم على تفكيك النظام الإيرانى نفسه ، مع تزايد إغراءات الاختراق الفادح لجبهة إيران الداخلية ، وما بدا من استرخاء مميت لأجهزة النظام الأمنية ، والنجاح المعادى فى تكوين جيوش من الجواسيس ، تؤدى أعمالا حربية مباشرة ، وتبنى فى الداخل الإيرانى مصانع ومقرات لتجميع الطائرات المسيرة ، على ما اعترفت به السلطات الإيرانية ، إضافة لأساطيل من الشاحنات المحملة بالطائرات المسيرة ومنصات إطلاقها ، وأنظمة صواريخ “سبايك” المنتجة فى المصانع “الإسرائيلية” ، والمعدة لتدمير الدبابات ، وتطلق من فوق الكتف لتدمير منصات الدفاع الجوى الإيرانية ، التى تعانى ضعفا ظاهرا ، إضافة لعدم وجود قوات جوية إيرانية تقريبا ، اللهم إلا طائرات “خردة” بعضها من طراز “إف ـ 5″ و”إف ـ 14″ موروثة من أيام الشاه ، ولا إمكانية لتجديدها مع انعدام قطع غيارها المحظور توريدها ، وفى هذا بعض ما يفسر انفتاح سماء إيران للطيران المعادى ، واعتماد إيران أساسا على صواريخها الباليستية والفرط صوتية مع الطائرات المسيرة ، وقد يكون فى ذلك ضعفا يغرى الأمريكيين و”الإسرائيليين” بتصور سهولة تفكيك النظام الإيرانى ، وإسقاطه بضربات جوية ، والاعتماد على عمل جيوش الجواسيس برا ، وفى ذلك وهم لو يعلمون عظيم ، فالنظام الإيرانى المعتاد على استخدام أعلى درجات القمع فى بيئة شرسة ، يملك فى جيشه وأمنه وحرسه الثورى ما قد يناهز المليون فرد ، وبوسعهم السيطرة السريعة على جغرافيا إيران البالغة نحو 1.7مليون كيلومتر مربع ، وفى تجارب عديدة سابقة للانتفاض المسلح على النظام الإيرانى ، أتى القمع الباطش أكله على الفور ، فما بالنا مع اللحظة الراهنة ، التى يبدو فيها النظام مدافعا عن برنامج إيران النووى والصاروخى ، وهو عنوان فخر وطنى للإيرانيين بغالبهم ، أضف إلى ذلك وجود كتلة شعبية صلبة مؤيدة عقائديا للنظام الإيرانى ، قد لا تقل بحال عن نصف مجموع السكان التسعين مليونا ، فالنظام الإيرانى ليس معلقا معزولا عن قواعد شعبية كما هى حال أغلب النظم العربية ، ومعارضاته القومية والاجتماعية والثقافية حاضرة ، لكن الغلبة العددية والتعبوية ليست فى صالحها ، ولا العدو الأمريكى “الإسرائيلى” مستعد أن يعمل معها على الأرض ، فالضربات الجوية ، ومهما بلغت ضراوتها وعنفها التدميرى ، لا تسقط نظاما ، وليس بوسع أمريكا أن تغامر بغزو إيران بريا ، وعندها عظات الإخفاقات التاريخية القريبة فى العراق وأفغانستان ، التى جدعت أنف واشنطن ، واستنفرت مقاومات ذاتية ، يبدو الوضع الإيرانى أكثر تأهيلا لها ، وعلى خلفية الاستنفار الدينى بالذات .
والمحصلة بالجملة ، أن إيران الحالية تبدو قادرة على منازلة العدوان الأمريكى فى طبعته “الإسرائيلية” إلى مدى طويل ، ومن دون أن ترفع رايات الاستسلام البيضاء ، ربما حتى لو قرر “ترامب” أن يخوض الحرب تحت أعلام أمريكا ذاتها ، فقد يستطيع إنزال الأذى الأكبر بإيران وبنيتها التحتية ، لكن إيران تملك ـ فى المقابل ـ مقدرة هائلة على التحمل فى نزال الدم ، وفوارق احتمال الأذى لا تدخل فقط فى باب الاحتياط المعنوى ، بل تتحول فى الحروب غير المتناظرة إلى قوة تفوق مادى مباشر ، وعلى نحو ما بدا فى حروب “إسرائيل” مع جماعات المقاومة المدعومة من إيران ، فما بالك إذا تعلق الأمر بإيران ، التى لا ننصح أحدا بانتظار مطالعة نعيها فى صفحات وفيات التاريخ الجارى .
[email protected]