
بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة
النشر الدولي للبحوث يعتبر أداة من أدوات القوة الناعمة للدول وأهميته تمتد لكلا من الباحث والجهة الأكاديمية أو البحثية المنتمي إليها وكذلك دولته. فالباحث يقدم في بحثه خلاصة جهده الإبداعي بغرض تعزيز مكانته العلمية وفرصه في الحصول على ترقية في عمله الأكاديمي أو تحقيق شروط الحصول على الدرجات العلمية الأعلى- مثل الماجستير والدكتوراة- التي تفرضها معظم الجامعات. كما تقوم بعض المؤسسات الدولية بتقديم مؤشرات تقيس مدى تأثير الباحث في المجتمع الأكاديمي الدولي ومن ضمنها مؤشر H-index وهو مؤشر يقيس مخرجات البحث العلمي للباحث وحجم إنجازه البحثي. أما الأهمية بالنسبة للجهة الأكاديمية والبحثية التي ينتمي لها الباحث هي أن النشر الدولي هوأحد الشروط التي يتم اعتمادها في تمويل مشاريع البحث العلمي من كبريات المؤسسات التجارية والمالية والدول. وهي أيضا واحدة من أهم الركائز التي يقوم عليها ترتيب الجامعات الدولية وخاصة في أهم أربع تصنيفات عالمية وهي تصنيف التايمز للجامعات العالمية و تصنيف كيو إس للجامعات العالمية و التصنيف الأكاديمي لجامعات العالم (تصنيف شنغهاي) وتصنيف لايدن للجامعات. وتأتى أهمية تحسّن ترتيب الجامعات فى هذه التصنيفات من كونها أحد مصادر القوة الناعمة للدولة ودلالة على جودة وكفاءة البحث العلمى فيها، مما يعطى للمؤسسات الدولية عموماً ولصانع القرار المحلى صورة عن إمكانية الاعتماد عليها فى صياغة سياساته. وبالنسبة للدول فإن النشر الدولي مهم جدا في ترتيبها حسب الأبحاث المنشورة في مجلات دولية وحسب معاملات التأثير البحثية للباحثين في جامعاتها ومراكزها البحثية، وحصول الجامعات على مراكز متقدمة في هذا التصنيفات يؤدي إلى جذب مزيد من الطلاب الوافدين من الدول الأخرى للتقدم لبرامجها الدراسية كما يشجع المزيد من الأساتذة والباحثين الأجانب للعمل فيها في مجالات التدريس والبحث العلمي, وهو ما يعني زيادة كبيرة في رصيد القوة الناعمة للدولة, حيث أن هؤلاء الطلاب والأساتذة يكونوا داعمين لصورة ومكانة الدولة المضيف في بلدانهم بعد عودتهم لأوطانهم. علاوة على ذلك فالنشر الدولي يحسن صورة الدولة عالميا و يعمق من فرص التعاون معها بحثيا ودمجها في مختلف المبادرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متعددة الأطراف ، مما يفتح الباب لفرص أكبر لاستثمار ولشراكات دولية متعددة الأطراف وفتح أبواب أوسع للدولة في المجال الدولي والإقليمي.
وبالرغم من التحسن الكبير للجامعات والمراكز البحثية المصرية في مؤشرات النشر الدولي، ما زال وضعها لا يليق بمكانة دولة رائدة كدولتنا فى الشرق الأوسط فى مجالات التعليم والبحث العلمى, فهناك جامعات دول عربية وشرق أوسطية سبقتنا بمراحل فى السنوات الأخيرة في عدد من التصنيفات الدولية، رغم أننا كنا نسبقها فى الماضى. وبالنظر للمستقبل فإن تحسين ترتيب مصر في مؤشرات البحث العلمي يمثل تحديا قويا كونه إحدى أدوات القوى الناعمة، بحيث يتطلب ذلك التحدي بذل الجهود المشتركة لتقوية مهارات البحث العلمي واللغات الأجنبية لدى باحثينا، فواقع الأمر يحتم علينا عدم العودة للخلف أو الاكتفاء بالنشر العلمي في مجلات محلية. فالجامعات يجب أن تستمر في حث وتأهيل منتسبيها للنشر في المجلات العلمية الدولية المفهرسة، مع التركيز على مجموعة منتقاة من هذه المجلات في مجال التخصص، ويجب أن يكون أحد أهدافنا القومية في هذا الصدد هو أن تعود الدولة المصرية لمركز الصدارة في منطقة الشرق الأوسط في مجال إنتاج ونشر البحوث العلمية كما كانت في الماضي قبل أن تسبقنا بعض دول المنطقة.
وخلاصة القول أن النشر الدولي هو آداة هامة من أدوات القوى الناعمة للدول فيما يسمى دبلوماسية العلوم, وترتيب الدول في مؤشرات النشر الدولي ينعكس بالضرورة على موازين القوى. ولا يمكن إنكار حقيقة صعوبة النشر في المجلات المصنفة في قواعد البيانات الدولية خاصة سكوبس وكلاريفت، حيث تفرض المجلات الدولية المدرجة بهما شروطا صعبة للغاية للنشر. هذه الصعوبات كان لها دور في إحجام الكثير من الباحثين في مصر عن السعي نحو النشر دوليًا. بالتأكيد تلك صعوبات يجب وضعها في الاعتبار ولكن يجب النظر إليها من منظور التحدي فهذا يجعل النشر العلمي الدولي رافدا مهما من روافد تعزيز قوة الدولة، وبناء أسس المجتمع وصناعة المكانة.