
بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة
فى عالم السياسة وإزاء تعقيدات إدارة الدولة وشئونها يقف مختلف صانعى القرار على كل المستويات أمام مواقف معقدة ومتشابكة تتطلب منهم قرارات حاسمة وسديدة. ولما كانت تلك الظروف المتشابكة يزيد من تعقيدها عنصر الوقت كدافع قوى لإنجاز قرارات مصيرية ومهمة فى وقت قصير، تظهر الحاجة لما يسمى تقدير الموقف. فما هو إذن تقدير الموقف؟ إن تقدير الموقف هو تقرير ـ عن ظاهرة أو مشكلة سياسية أو اقتصادية فى الأغلب، ويعتبر تقدير الموقف أرقى صور أوراق السياسات ويتضمن تحليلا سياسيا استراتيجيا. ويركز على تحليل متغيرات سياسية أو اقتصادية طارئة تتطلب تقديم بدائل سياسات ويكون موجها فى الغالب نحو صانع القرار أو القوى السياسية مثل الأحزاب وجماعات الضغط وذلك لمساعدتهم فى اتخاذ قرار رشيد أو التوجيه نحوه فى ضوء قراءة واعية لظروف الواقع.
ويتضمن تقدير الموقف رأيا حول موضوع معيّن ويجب أن ينتهى إلى خلاصات محدّدة ويبنى على ضوئها فى الأغلب موقف أو مواقف سياسيّة. ويقوم بعمل تقديرات الموقف خبراء ومستشارون. وأهم عناصر التقدير هي: تحديد القضية المطروحة وتشخيص التحديات والمشكلات والسيناريوهات، وتحديد البدائل ذات الاولوية، وينتهى التقرير بالتوصيات لصانع القرار. وهو بذلك يختلف عن التقرير؛ فتقدير الموقف يخضع لسلسلة من المراحل تتم بشكل معين، لا تقف عند حد التحليل الذى يقدمه التقرير، بل تنتهى بعملية صياغة بدائل للرأي، ثم يتم رفع التقدير للقيادة المتخذة للقرار.
وتقدير الموقف يبدأ بتحليل المعلومات المتوافرة عن الموضوع أو المشكلة محل الاهتمام، وكلما كان تحليل المعلومات المتوافرة أكثر دقة كلما كان القرار أكثر صوابا. والمتابع لطريقة تحليل المعلومات المتوافرة عن الظواهر محل الاهتمام من قبل الخبراء والمستشارين يلحظ أن هناك فجوة واسعة بين تصور فريقين عن الطريقة الأمثل لصياغة التقرير، فهناك فريق يرى وجوب أن يكون التحليل مبنيا على الأدلة العلمية والرقمية والأساليب المنهجية السليمة والابتعاد قدر الإمكان عن الآراء الشخصية والتحيزات المسبقة، وفريق آخر ينظر إليه كعملية مبنية على التقدير الشخصى للخبير (الحكم الفردي) فى صورة عبارات إنشائية معتمدًا على خبرته العلمية والعملية الطويلة فى التعامل مع المشكلات المماثلة وعلى حدسه من خلال المعلومات المتوافرة لديه. وغالبا لا يركز أنصار الفريق الثانى على الطرق الرقمية والاحصائية والوسائل التكنولوجية الحديثة فى تحليل البيانات الضخمة ومن ثم تفسير الظواهر السياسية والاقتصادية، كما يفعل غالبا أنصار الفريق الأول، بل يقوم الخبراء بتفسير هذه الظواهر بأسلوب إنشائى يعتمد على التعبير بعبارات وجمل توضح ماهية وطبيعة الظاهرة محل الاهتمام، وعلاقاتها المتداخلة مع بعض الظواهر الأخرى المؤثرة فيها والرأى الشخصى للخبير الخاص بأفضل البدائل والحلول للتعامل مع الظاهرة أو المشكلة محل الاهتمام ـ أو ما يطلق عليه البعض للتبسيط التحليل الكيفى للظواهر. فى حين أنه غالبا ما يطلق على طرق التحليل التى يتبعها الفريق الأول التحليل التجريبى للظواهر.
ويمكن القول إن التحليل الكيفى يهدف غالبا إلى فهم الظاهرة فى ظروفها التى تمت فيها. ولا يمكن من خلال هذا التحليل تعميم النتائج التى توصل إليها كاتب التقرير على حالات أخرى. بينما يعتمد التحليل التجريبى على قياس الظاهرة، وإيجاد العلاقات بين الأسباب والنتائج، والتعبير عنها بصورة رقمية فى شكل مؤشرات إحصائية، وبالتالى يمكن تعميم نتائجها على حالات أخرى. وغالباً ما يختار المحلل الكيفى حالة عمدية ويبنى عليها تحليله، بينما يعتمد المحلل التجريبى على بيانات ومعلومات ـ رقمية فى الأغلب ـ وكلما زادت دقة المعلومات التى يعتمد عليها زادت دقتها فى تحليل وتفسير الظاهرة وفى اقتراح البدائل المطروحة وفى تعميم النتائج على الحالات المشابهة الأخرى وفى اتخاذ القرارات السليمة.
وفى الحقيقة إن المنهجين الكيفى والتجريبى ليسا متعارضين أو متضادين، حيث إنه يمكن استخدامهما معاً فى نفس التقرير للوصول إلى أفضل تقدير موقف. فيكون جانب من التقرير تجريبيا يعتمد على الأدلة الرقمية والتحليلات الكمية المتعارف عليها مثل تحليل البيانات الضخمة والبيانات غير الرقمية مثل البيانات المتاحة فى وسائل التواصل الاجتماعى وأيضا تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى عمل نماذج محاكاة لبدائل السياسات، وجانب آخر من التقرير كيفى يعتمد على خبرة المحلل فى تفسير النتائج الرقمية المتحصلة من التحليل التجريبى والتى لا يمكن تفسيرها إلا من خلال الخبرة الشخصية للمحلل الكيفي, بالإضافة إلى تفسير الظاهرة فى ظروفها التى تمت فيها – ومن ثم نصل إلى أفضل نتائج من خلال خلط المنهجين. وواقع الحال أنه لا غنى عن التحليلين الكيفى والتجريبى إذا أراد متخذ القرار أن يحصل على تقدير موقف أفضل.
تزداد أهمية تقدير الموقف فى إدارة الأزمات، خاصة أن أحد أهدافها استشراف الأزمات وربما الإدارة بالأزمات. وهذا يعنى أن تقدير الموقف إذا كان دقيقاً متكاملاً يجمع بين التحليل التجريبى والكيفي، بالإضافة لطبيعته الشمولية، فإنه قد يساعد على منع الأزمات، أو تجنب تداعياتها، وكذا مرحلة التعامل مع مرحلة ما بعد الأزمة. وبصفة عامة فإن الدراسات المستقبلية تعتمد على تقديرات الموقف فى كل المجالات التى ترتبط بالأمن القومي.
ومن هنا فيتوجب على الباحثين والأكاديميين فى مختلف فروع العلوم الاجتماعية، وهى تلك التى تتناول بعدا أو آخر فى نطاق أدوار السلطة الحاكمة، أن يكونوا على دراية بكيفية صياغة تقديرات الموقف وأن يقفوا على متطلباتها، حتى يقوم الباحث بدوره الأمثل فى تقديم قراءة واعية للواقع, ويكون صانع القرار إزاء صياغة قراره قائما على معلومات دقيقة ونظرة ثاقبة لفهم الواقع.