
كتب دمحمد محمد زيادة
قبل عامين، كتبنا مقالًا ناقوسه التحذير، وإيقاعه التوازن، شددنا فيه على أهمية التأني في إصدار قانون العمل الجديد ليحقق العدالة للطرفين: العامل وصاحب العمل، وليخلق مناخًا استثماريًا جاذبًا بعيدًا عن الإفراط والتفريط. وها نحن اليوم أمام القانون رقم 14 لسنة 2025، الذي خرج للنور بعد جهدٍ مقدَّر ومشكور من مجلس النواب، ليُظهر بصمات واضحة تعكس حرصًا على تحقيق توازن بين حقوق العامل ورب العمل. ولكن، بعض المواد تستدعي وقفة جادة عند صياغة اللائحة التنفيذية، لما لها من تأثير بالغ الخطورة على سوق العمل، خاصة إذا لم تُعالج بحكمة ودقة.
وعلى الرغم من أن القانون الجديد يمثل خطوة إلى الأمام، إلا أن بعض نصوصه قد تفتح أبوابًا خلفية لسوء استغلال أو خلل في التطبيق. من أخطر هذه النصوص المادة 132، المستحدثة، التي تمنح الجهة الطبية المختصة صلاحية منع العامل المخالط لمريض معدٍ في أسرته من مزاولة عمله لمدة قد تصل إلى ثلاثة أشهر. وعلى الرغم من حسن النية وراء هذه المادة، إلا أن تطبيقها في الواقع قد يتحول إلى عبء ثقيل على أرباب العمل، إذ يمكن للعامل بسهولة الحصول على مستند طبي يثبت مخالطته لمريض، دون قدرة حقيقية لصاحب العمل على التحقق من صحة الادعاء. النتيجة؟ توقف الإنتاج، وتحمل صاحب العمل تكاليف إضافية قد لا تكون في استطاعة بعض المنشآت تحمُّلها. لذا، لا بد أن تُعالج اللائحة التنفيذية الأمر بمنتهى الحكمة، عبر تقنين الحالات التي تُطبق عليها المادة، وجعلها نادرة الحدوث وسهلة التحقق من حقيقتها.
كذلك تُعد المادة 166، التي تعتبر العامل مستقيلاً إذا تغيب دون مبرر مشروع، من أخطر المواد التي تمثل تحولًا مثيرًا للقلق. فبدلًا من تمكين أصحاب العمل من فصل العامل المستهتر الذي يقرر بشكل عشوائي الانقطاع عن عمله دون إخطار مسبق، تُساوي هذه المادة بين من يغادر عمله باحترافية واحترام، ومن يتعامل معه بعشوائية وعدم التزام. النتيجة؟ إضعاف الالتزام المهني، وتشجيع السلوكيات غير المسؤولة، مما يخلق بيئة عمل فوضوية وغير منتظمة. لذا، من الضروري أن تُعالج اللائحة التنفيذية هذا النص بما يحفظ حقوق الجادين من العاملين، ويُتيح لأصحاب العمل اتخاذ الإجراءات المناسبة ضد المستهترين.
ولعل هاتين المادتين هما الأبرز من بين التحديات، لكنهما ليستا الوحيدتين. هناك مواد أخرى تستدعي عناية خاصة عند صياغة اللائحة التنفيذية.
على سبيل المثال، المادة السادسة، التي تشترط الحصول على ترخيص لمزاولة المهنة، ما زالت تشكل عبئًا إضافيًا على العاملين والمنشآت، فما المانع من إعفاء الحاصلين على مؤهلات فنية معترف بها من شرط الحصول على هذا الترخيص؟
أما المادة 88، فتحتاج إلى وضع قيود قوية حول اعتبار عقد العمل غير محدد المدة، مع ضرورة تعريف ما هو عقد العمل غير محدد المدة بمنتهى الدقة؛ لتجنب أي لبس قد يؤدي إلى نزاعات مستقبلية.
ولا ننسى المادة 95، التي تتناول التزام العامل بسداد نفقات التدريب إذا ترك العمل قبل انقضاء المدة المتفق عليها، فلا بد من أن تضع اللائحة التنفيذية آلية صارمة وقابلة للتطبيق تحفظ لصاحب العمل حقه عند عدم التزام العامل بسداد نفقات التدريب في حال تركه العمل قبل انقضاء المدة، مع مراعاة ضرورة أن يُعتد بالتدريب الداخلي الذي يقدمه أصحاب العمل باستخدام الموارد الخاصة بالمنشأة كتدريب على نفقة صاحب العمل.
أما المادة 124، المتعلقة بالإجازات السنوية بأجر، فيجب أن توضح أن زيادة عدد الأيام للإجازات المستحقة مرهون باستمرار العامل في العمل بمنشأة واحدة، وألا تسري هذه الزيادات المتوالية في حال انتقال العامل بين منشآت مختلفة.
وفي المادة 131، التي تمنح العامل الحق في إجازة مرضية بأجر، لا بد من التفرقة بين الحالات التي تكون فيها الإصابة نتيجة أمر خارج عن إرادة العامل أو إصابة ناتجة عن إهمال جسيم من العامل، أو بسبب قيامه بفعل غير مشروع.
كذلك المادة 154، التي تنص على منح العامل مكافأة نهاية الخدمة عند انقضاء خمس سنوات، دون النظر إلى أدائه أو سلوكه المهني، تحتاج إلى وضع آلية يُستطاع من خلالها القياس الفعلي لأداء العامل، كأن يشترط أن يكون سجله خاليًا من الجزاءات ليكون مستحقًا لهذه المكافأة.
وأخيرًا، المادة 167، التي تمنح العامل الحق في التراجع عن استقالته بعد قبولها، تحتاج إلى معالجة خاصة في اللائحة التنفيذية. فماذا إذا كان صاحب العمل قد قام بالفعل بتعيين عامل بديل لضمان استمرار العمل فور قبول استقالة العامل الأول؟ وما هو مصير العامل البديل بعد عدول الأول عن استقالته؟
ومن الضروري أيضًا أن تُواكب اللائحة التنفيذية توجه القيادة السياسية نحو التحول الرقمي، من خلال تبني آليات إلكترونية لتقديم وتبادل المستندات والمعلومات بين العامل وصاحب العمل والجهات الإدارية. كما نوصي بإعداد لائحة جزاءات صارمة تتماشى مع القانون الجديد، لضمان تطبيقه بعدالة وحزم.
وفي الختام، نأمل أن تكون اللائحة التنفيذية للقانون رقم 14 لسنة 2025 على قدر المسؤولية، وأن تأخذ في الاعتبار النقاط التي أثارتها المواد المذكورة بمنتهى الدقة والحكمة، خاصة المادتين 132 و166. فما أحوجنا إلى تبني سياسة القيادة السياسية في خلق مناخ استثماري جذاب، وبعث رسالة طمأنينة للمستثمرين، تحفزهم على خلق المزيد من فرص العمل الحقيقية لمزيد من العاملين، في ظل سوق عمل احترافي، مبني على التكامل بين العامل ورب العمل؛ ليحقق المصالح المشتركة بين قطبي المعادلة.