مقالات كبار الكتاب

د. محمود السعيد يكتب .. نظام الابتعاث وضرورة مراجعته

بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة

بدأت نهضة مصر الحقيقية في القرن التاسع عشر، عندما تم الاعتماد في بناء الدولة الوطنية الحديثة على إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا والاحتكاك بالحضارة الغربية وهى في أوجها. وفى هذا الإطار ابتعثت الدولة أبناءها النابهين من أمثال رفاعة رافع الطهطاوى للتعلم في جامعات أوروبا ومن ثم الاستفادة منهم- بعد عودتهم- في نقل الخبرات الأوروبية وتوظيفها بما يحقق النهضة المأمولة. هكذا اعتمد محمد على باشا على هؤلاء المبتعثين بعد عودتهم في إنشاء المدارس التعليمية التي تطورت لاحقاً لتصبح كليات تعلم المصريين الطب والهندسة والعلوم والفنون، ومن هذه الكليات تخرجت نخبة بالغة التميز تصدرت المشهد العام في مصر وجعلت من مصر بؤرة إشعاع علمى وثقافى ومركزا للتنوير والمعرفة الرفيعة.

استمرت الدولة المصرية في الاهتمام بالابتعاث الخارجى مطلع القرن العشرين وأرسلت أسماء أعلام من أمثال الأديب طه حسين وغيره من خيرة أبنائها للتعلم في كبريات الجامعات الأوروبية فعادوا مسلحين بثقافة الغرب دون تفريط في لغتهم الأم، وهذا درس بليغ لكل من يقايض تعلم اللغات الأجنبية بإهمال لغته الأصلية فيما اللغة هي التعبير الأبرز عن الهوية.

وعندما جاءت ثورة يوليو 1952 فإنها توسعت في حركة الابتعاث للخارج أكثر وخصصت موارد مالية ضخمة لهذا الغرض وفقًا لخطة مستمدة من دراسة وضع التخصصات العلمية في الجامعات المصرية والاستجابة لاحتياجاتها المختلفة. وكانت القاعدة العامة حتى نهاية الستينيات هي عودة المبتعثين فور إتمام دراستهم ليساهموا في نهضة مصر بالمعنى الواسع للكلمة، وهذا أمر منطقى يرتبط فيه السبب بالنتيجة. لكن منذ عقد السبعينيات بدأت ثم تفاقمت ظاهرة عدم عودة المبتعثين بعد استنفاد الغرض الذي سافروا من أجله فيما يُطلق عليه نزيف العقول أو الأدمغة، وهى ظاهرة عامة بالمناسبة جوهرها أن الدول النامية التي تستثمر موارد مالية ضخمة في تعليم أبنائها وتتيح لهم فرصاً واسعة لتطوير أنفسهم من جهة والعودة بكل ما هو نافع لبلدانهم من جهة أخرى، هذه الدول لا تلبث أن تُحرم من قطف ثمار غرسها بعد أن يعاد زراعته في أرض غريبة. ولا تتجلى فقط الأبعاد السلبية لظاهرة نزيف العقول في قيام البلدان النامية بتمويل نهضة البلدان المتقدمة، لكنها تشمل أيضاً تعميق الفجوة الحضارية بين الشمال والجنوب، واستنزاف رأس المال الاجتماعى الذي يعد هو أثمن مكونات التقدم وعصبه الرئيسى، ويزيد من تفاقم السلبية الأخيرة أن دول الشمال أصبحت تركز على اجتذاب العناصر النوعية شديدة التميز من أبناء الجنوب وهى عناصر تحتاجها دولها بشدة، وعادة ما يكون المقابل الحصول على امتيازات مادية أو اكتساب جنسية الدولة الأجنبية. وعلى هذا النحو يتوالى تجريف الجامعات المصرية عن طريق استقطاب الكفاءات المتميزة، وحتى المبتعثين الذين يضطرون للعودة إلى مصر فإنهم سرعان ما يغادرونها مجدداً مستفيدين من بعض التسهيلات التي كان الأصل فيها جمع شمل الأسرة مثل مرافقة الزوج أو الزوجة لعدد لا نهاية له من السنين، والنتيجة هي احتجاز وظائف وشغل درجات على الورق لا أكثر.

ما سبق يدفعنا لإثارة السؤال الآتى: هل فقد نظام الابتعاث الهدف منه وأصبحت المخصصات المالية التي تنفقها الدولة على المبتعثين بمثابة إهدار لموارد كان يمكن الاستفادة منها في تطوير التعليم بطرق أخرى غير الابتعاث، مثل دعوة الأساتذة الأجانب للتدريس في الجامعات المصرية، في إطار التعاون الدولى مع جامعات مرموقة لتعميم الاستفادة بين الطلاب المصريين وتحقيق التلاقح الفكرى والتفاعل الثقافى المرجو؟ إن مثل هذا السؤال يكتسب مشروعيته خصوصاً أن برامج المنح التعليمية التي تقدمها أوروبا والولايات المتحدة أصبحت في متناول الطالب المصرى الذي يرغب في استكمال دراسته بالخارج، فلا يحتاج إلا للبحث الجاد عن منحة مناسبة واستيفاء شروطها.

الواقع يقول إن الابتعاث للخارج لم يفقد أهميته فالتعايش الممتد مع نمط مختلف من التفكير والحياة له دور كبير في صقل شخصية المبتعث وتغيير الكثير من الصور النمطية التي تكونت في ذهنه عن الآخر المختلف، وهذا لا يتحقق بمجرد تلقى العلم من أساتذة أجانب زائرين، لكن في الوقت نفسه فإن النظام الحالى للابتعاث للخارج يحتاج إلى وقفة لتصحيح الاختلالات التي يعانى منها وترشيده ما أمكن.

وبداية نحن بحاجة شديدة إلى التركيز في الابتعاث على النابهين من الطلاب، أما سواهم ممن يبحثون عن الدراسة في الخارج فعليهم الاجتهاد في البحث عن منحة مقدمة من جامعة أجنبية توفيراً لموارد الدولة. كما نحتاج إلى تهيئة المناخ المناسب الذي يسمح بالاستفادة من الخبرات المكتسبة من الخارج. كذلك نحتاج إلى تحقيق توازن بين تخصصات المبتعثين، في إطار الخطة البحثية لوزارة التعليم العالى والجامعات المصرية، بما يلبى احتياجات المجتمع ويملأ الشواغر ويمنع التكرار أو دراسة ما لا طائل من ورائه بالنسبة لظروف مصر. ومن الأهمية بمكان في كل الأحوال اتخاذ التدابير التي تضمن عودة المبتعثين على حساب الدولة لخدمة وطنهم بعد انتهاء مدة بعثاتهم.

إن ملف الابتعاث للخارج من الملفات الهامة الجديرة بالمراجعة العملية التعليمية بشكل عام، ويجب أن يكون نظام البعثات من القضايا المشمولة بالمراجعة والإصلاح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى