
بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة
هو قضية القضايا، فيمكننا بكل تأكيد رد معظم مشكلات أى مجتمع إلى أصل واحد وهو سوء مستوى التعليم؛ فهو المسبب للفقر، والمرض، والعنف والإرهاب. ولا تقتصر أهمية التعليم والبحث العلمى على بناء شخصية المتعلم وحسب بل تمتد أهميته إلى المشاركة الفعالة فى تأسيس المجتمعات وبناء ثقافاتها وتطوير علاقاتها بين الأفراد والجماعات على حدّ سواء.
ويتفق معظم المتخصصين فى قضايا التعليم والبحث العلمى على أن وضع التعليم والبحث العلمى فى مصر لم يعد بنفس المستوى الذى كان عليه فى الماضى مقارنة بدول المنطقة، وأصبح مستواهما لا يليق بدولة رائدة فى منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا،حيث شهدت الأعوام الأخيرة تراجعًا ملحوظًا فى ترتيب مصر الدولى فى أهم مؤشرات التعليم والبحث العلمى الصادرة عن بعض الهيئات الدولية، والحوار الوطنى الذى دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى 2022 والذى ما زالت جلساته مستمرة هو فرصة ومناسبة عظيمة لتقديم مقترحات بناءة من أجل تطوير منظومة التعليم العالى والبحث العلمى. وأرى أن هناك ثلاث آليات رئيسية لتحسين مستوى التعليم والبحث العلمى لكى يصلا إلى المستوى الذى نطمح إليه، وهى إصدار قانون جديد لتنظيم الجامعات، وتطوير السياسة العامة للتعليم الجامعى لتتناسب مع وظائف المستقبل، وتطوير سياسات البحث العلمى بربط مخرجاته بالقضايا القومية الملحة, وقد ناقشنا مسألة إصدار قانون جديد لتنظيم الجامعات وأهمية ذلك فى تطوير التعليم والبحث العلمى فى مصر فى مقالات سابقة, وفى هذا المقال نتطرق إلى الآلية الثانية المقترحة الخاصة بتطوير السياسة العامة للتعليم الجامعى لتتناسب مع وظائف المستقبل. يعيش العالم الآن عصر الثورة الصناعية الرابعة التى تعتمد بشكل أساسى على تكنولوجيا المعلومات واقتصاد المعرفة، ويعتمد العالم المتقدم اعتمادًا كليًا على مؤسسات التعليم العالى، أولًا لاكتساب وتوطين المعارف المرتبطة بتلك الثورة الصناعية، وثانيًا لتخريج كوادر مؤهلة لسوق العمل والوظائف المرتبطة بطبيعة هذه الثورة. وتؤكد نتائج معظم الدراسات العلمية الحديثة أن معظم الوظائف القائمة حاليًا ستنقرض، وأن تقنيات الذكاء الاصطناعى وتطبيقاته ستؤدى إلى تغيير جذرى فى ملامح سوق العمل فى المستقبل القريب، حيث ستؤدى التكنولوجيا المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة إلى مزيد من الوظائف المستحدثة التى ترتبط باستخدام الخوارزميات ذاتية التشغيل والروبوتات وتكنولوجيا المعلومات وتطويرها وإدارتها. ويعّد هذا التطور تحديًا كبيرًا لجهود سياسات التعليم الحالية فى تأهيل الخريجين لسوق العمل بسبب ما يُنتظَر من أتمتة عدد كبير من الوظائف الحالية فى المستقبل القريب، واستحداث وظائف أخرى مرتبطة بطبيعة الثورة الصناعية الرابعة. وفى ضوء ذلك يجب أن يتم تعديل السياسة العامة للتعليم العالى لكى تكون الجامعات المصرية قادرة على إكساب الطلاب المعارف المطلوبة وتخريج كوادر مؤهلة لشغل وظائف المستقبل. وهنا يمكن أن تتضمن سياسات التعليم العالى أربعة محاور لتحقيق الأهداف المرجوة وهى:
– إعادة النظر فى سياسات التنسيق الحالية: توضح تقارير الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء الخاصة بالجامعات أن الجامعات الحكومية تضم 290 كلية نظرية من بين 546 كلية بنسبة 53% تقريباً، وأن هذه الكليات النظرية تضم حوالى 75% من طلاب الجامعات الحكومية. وبخلاف أن وظائف المستقبل ترتبط بتخصصات معظمها بعيد كل البعد عن التخصصات النظرية الموجودة فى الجامعات المصرية، فإن سوق العمل منذ نهاية القرن الماضى وحتى الآن لا تستوعب العدد الكبير من خريجى الكليات النظرية، ما أدّى إلى نتيجتين، أولاهما الزيادة الكبيرة فى معدلات البطالة والبطالة المقنّعة من بين خريجى الكليات النظرية. وثانيتهما ارتفاع نسبة عدد الطلاب لكل أستاذ فى الكليات النظرية بشكل يبتعد عن مواصفات جودة التعليم. لذا يجب إعادة النظر فى سياسات التنسيق وتخفيض نسب الالتحاق بالكليات النظرية إلى الحد الذى يتماشى مع احتياجات سوق العمل.
– التوسع فى إنشاء كليات جديدة داخل الجامعات الحكومية تضم تخصصات مرتبطة بوظائف المستقبل: فقد بدأت الجامعات المصرية الحكومية والخاصة فى إنشاء عدد من الكليات التى تضم تخصصات المستقبل وتفى باحتياجات سوق العمل. ومن أمثلة هذه التخصصات تخصص الأمن السيبراني-تخصص الهندسة النووية- تخصص هندسة الذكاء الاصطناعي- تخصص علوم البيانات الضخمة إلخ. وعلى الرغم من ذلك فإن عدد الكليات التى تضم هذه التخصصات ما زال قليلًا، ولذا يقترح التوسع فى إنشاء المزيد منها، وفى المقابل ينصح بعدم التصريح بإنشاء أى كلية نظرية جديدة فى مصر، حيث إن عدد الكليات النظرية يفوق ما هو مطلوب.
– إنشاء تخصصات جديدة داخل الكليات النظرية مرتبطة بوظائف المستقبل: فى الكليات النظرية نفسها يمكن إنشاء برامج جديدة بينية مع تخصص أو أكثر من تخصصات المستقبل، فمثلًا يمكن إنشاء برنامج دراسى خاص بالتقاضى الإلكترونى بين كلية حقوق وكلية الحاسبات والمعلومات، وهكذا. هذا من شأنه أن يزيد من إسهام الكليات النظرية فى سد احتياجات سوق العمل فى المستقبل، ويجعلها أكثر تماشيًا مع الطفرات العلمية والتكنولوجية الحادثة عالميًا.
– تطوير أساليب التعليم والتدريس والتعلم: شهد العقد الأخير وخصوصا وقت أزمة انتشار فيروس كورونا بعض مظاهر تطوير أساليب وسائل التدريس مثل الاعتماد على التكنولوجيا فى التعليم ومنصات التعلم عن بعد، وهى أمور مهمة جدا ولكن الأهم منها بكل تأكيد هو تطوير المناهج وطرق التعلم للانتقال بمنظومة التعليم العالى من تعليم يعتمد – فى أغلبه – على الحفظ والتلقين إلى التعليم الذى يعتمد على البحث والابتكار والتفكير النقدى.