مقالات كبار الكتاب

د. محمود السعيد يكتب .. الحوكمة الجامعية: مواكبة التطور بموارد محدودة

بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة

تواجه المؤسسات التعليمية فى الاقتصادات الصاعدة (ومصر من بينها) معضلة أساسية وهى حاجتها الماسة لمواكبة التطورات العلمية والمعرفية الكبرى، ولكن مع الوضع فى الاعتبار طبيعة مواردها المحدودة. فكيف يمكن اللحاق بالركب دونما تجاهل للظرف الاقتصادي؟ أحد الحلول المقترحة لتلك المعضلة تتلخص فى الحوكمة الجامعية، ولكن كيف يمكن تطبيق الحوكمة فى المؤسسات التعليمية؟.

لقد مرت الجامعات فى العالم بأربع مراحل مرتبطة إلى حد كبير بالثورات الصناعية الأربع، وعادة ما نطلق على هذه المراحل مصطلح أجيال صاحب كل جيل تغيرات هيكلية وجذرية فى وظائف الجامعات وأهدافها الإستراتيجية. فالجيل الأول من الجامعات ركز على التدريس فقط كوظيفة غرضها نقل المعرفة من الأستاذ أو العالم لطلابه، واستمر هذا النمط إلى بدايات القرن التاسع عشر حين بدأت إرهاصات الثورة الصناعية الثانية التى أحدثت تطورات هائلة فى التكنولوجيا واختراعات جديدة مثل المصباح والمحرك الكهربائى والهاتف وغيرها وهى التى ساهمت فيها بشكل مباشر جامعات الجيل الثانى التى جمعت بين وظيفتى التدريس والبحث العلمي. وخلال القرن العشرين ومع بزوغ فجر الثورة الصناعية الثالثة، ثورة التحول الرقمى والتكنولوجيا الدقيقة، ظهرت الحاجة إلى زيادة الروابط بين الجامعة والمجتمع والتدريب المستمر بغرض التأهيل لسوق العمل، ومن هنا ظهرت جامعات الجيل الثالث والتى لا يقتصر دورها على التدريس وإجراء البحوث العلمية بل يمتد لخدمة المجتمع من خلال إعداد متخصصين ورواد أعمال.

وفى السنوات الأخيرة ظهر مصطلح الجيل الرابع من الجامعات وهى جامعات لا يقتصر دورها على التدريس والبحث وخدمة المجتمع فقط، بل تعتمد على عناصر العولمة والتكنولوجيا المتقدمة التى صاحبت الثورة الصناعية الرابعة، التى تميزت بالتكامل العميق بين الأنظمة الرقمية والبيولوجية والفيزيائية بغرض خلق الأفكار الابتكارية ورعاية رواد الأعمال والتكامل مع الصناعة من أجل المساهمة فى التنمية المستدامة، كما تتميز بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة فى إدارة كل شئونها، سواء المرتبطة بالتعليم، أو البحث العلمى، أو خدمة المجتمع. والحوكمة هى مجموعة من المبادئ الأساسية التى تنتهجها المؤسسات بغرض إدارة شئونها بأعلى قدر من الكفاءة والفاعلية ومكافحة الفساد، ومن هذه المبادئ النزاهة والشفافية والمساءلة والمحاسبة والمشاركة وسيادة القانون. والهدف الأسمى من حوكمة مؤسسات التعليم العالى هو تحسين جودة التعليم والبحث العلمى، وخدمة المجتمع، وضمان فعاليتهم من خلال تطبيق مجموعة المبادئ المشار إليها وحسن إدارتها للموارد المتاحة.

وقد كان لتطبيق مبادئ الحوكمة فى الجامعات المختلفة دور كبير فى تحسين جودة التعليم من خلال وضع معايير وضوابط تضمن التزام الجامعة بأفضل الممارسات الأكاديمية. كما أسهمت فى توفير بيئة مشجعة للبحث العلمى، مما ساعد فى تطوير المعرفة والابتكار، وحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وهى من أهم أهداف جامعات الجيل الرابع.

هناك أهمية كبيرة لتبنى مفهوم الحوكمة ومبادئها الأساسية فى إدارة شئون جامعات الجيل الرابع، ولكن هناك تحديات تواجه تحقيق نظام حوكمة فعال فى الجامعات، ومن ضمن هذه التحديات بالتأكيد هو قلة الموارد ويعد هذا التحدى أحد أبرز التحديات التى تواجه الجامعات، وهو فى نفس الوقت الدافع لتطبيق الحوكمة، حيث يؤثر نقص التمويل على جودة التعليم والبحث العلمى، ولكن بالابتكار وبتطبيق آليات الحوكمة الخاصة بالشفافية والمساءلة يمكننا تحسين إدارة الموارد وتوفيرها. كما يبرز الحاجة الماسة إلى أفكار ابتكارية لخلق موارد مالية إضافية فى جامعاتنا، وأعتقد أن هناك فرصا عظيمة إذا ما استغلت الجامعات قانون رقم 23 لسنة 2018 والخاص بحوافز العلوم والتكنولوجيا والابتكار والذى يسمح للجامعات بإنشاء شركات بصورة منفردة أو بالتعاون مع المؤسسات الاقتصادية من أجل الاستفادة من أفكارها البحثية والابتكارية.

أما التحدى الثانى فهو البيروقراطية حيث تعانى معظم جامعاتنا البيروقراطية الزائدة التى تعطل وأحيانا تمنع اتخاذ القرارات المهمة وتحد من مرونة النظام التعليمى. أما التحدى الثالث فهو ضرورة الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية فى إدارة شئون الجامعة لتحقيق الحوكمة، وهناك صعوبات جمة فى هذا الملف تحديدا حيث يتطلب التطور التكنولوجى السريع تكيف المؤسسات التعليمية مع التقنيات الجديدة، وهو ما يمثل تحديًا صعباً للغاية فى جامعات كثيرة بسبب نقص الموارد المالية اللازمة لتبنى هذه التقنيات. ومن هنا فإن حوكمة الجامعات تعد أداة أساسية لتحسين جودة التعليم وتعزيز البحث العلمى وخدمة المجتمع لأجل مواجهة تلك التحديات، وذلك من خلال تبنى سياسات وضوابط واضحة، وتعزيز الشفافية والمشاركة والمساءلة، ومن ضمن هذه الضوابط وضع سياسات واضحة للجامعة، حيث يتطلب نظام الحوكمة الفعال وضع سياسات وضوابط واضحة تحكم عمل الجامعة، وتحدد معايير الجودة والمسئوليات. أيضا يجب تعزيز الشفافية فى جميع جوانب النظام التعليمى والبحثى، بدءًا من إدارة الموارد المالية وصولاً إلى اتخاذ القرارات الأكاديمية. كما يتطلب تحقيق حوكمة الجامعة مشاركة فعالة من أصحاب المصالح، بما فى ذلك الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والموظفون، فى عملية اتخاذ القرار. وهناك حاجة ضرورية إلى التعاون الدولى مع جامعات العالم بغرض تبادل المعرفة والخبرات، وتحسين جودة التعليم والبحث العلمى من خلال تبنى أفضل الممارسات العالمية، بالطبع دون أن يؤدى ذلك إلى المساس بمعايير الأمن القومى للدولة. كما يجب على الجامعة تعظيم الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتحسين العملية التعليمية، وتعزيز البحث العلمى، مع ضمان توفير التدريب اللازم لأعضاء هيئة التدريس والطلاب. وأخيرا وليس آخرا يجب أن تكون هناك سياسات واضحة للتحفيز على الابتكار والإبداع من خلال توفير بيئة ملائمة للتجريب والتطوير، وتقديم الدعم المالى والمعنوى للمشروعات البحثية الجديدة خصوصا المرتبطة بالقضايا القومية الملحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى