
بقلم د. محمود السعيد .. نائب رئيس جامعة القاهرة
لا يخفى على أحد الدور الحاسم الذي تلعبه البيانات والإحصاءات في عملية صنع القرار في أي دولة، كما لا يخفي على أحد أيضاً أن صحة القرارات التي تتخذها الحكومات تعتمد اعتماداً كبيراً على مدى صحة إحصاءاتها؛ وذلك لأن البيانات الإحصائية هي أهم أداة للتخطيط في كل المجالات سواء الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية. ولا يمكن التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بدون وجود بيانات إحصائية دقيقة وسليمة؛ وذلك لحقيقة بسيطة، ألا وهي ضرورة فهم حقيقة وتوجهات ذلك الواقع الذي تخطط له أولاً، ومن ثم تقوم بجمع إحصاءاته.
وعلى الرغم من هذه الأهمية القصوى، إلا أن البيانات الإحصائية والأشكال البيانية من السهل فبركتها أو التلاعب بمدلولاتها؛ وخصوصًا الأشكال البيانية التي يمكن استخدام أساليب الخداع البصري فيها لتعكس معلومات مضللة أو غير حقيقية. يكفي – على سبيل المثال البسيط – أن تقلل عدد السنوات المدروسة في إحصائية معينة لتوحي للقراء أن أثراً سلبياً أو ظاهرة خطرة يزداد تكثيفها في الوقت الراهن، على الرغم من أنه إذا قدمت نفس الإحصائية على مدى سنوات أطول، قد تبدو تلك الظاهرة الباعثة على القلق مجرد أمراً بسيطاً. كذلك يمكنك أن تقلل أو تكبر حجم العينة المدروسة أو تنتقي من العينات الذي يخدم غرضك من فبركة الإحصاء.
ومن المعروف أن أحد أساليب الحروب النفسية التي تنتهجها الدول والجماعات في حربها ضد دول أخرى هو فبركة الإحصاءات والتلاعب بالأشكال البيانية كأحد الأدوات الفعالة في تأليب الرأي العام وشحن الجماهير لزعزعة الاستقرار. كما يتم استخدام الإحصاءات المفبركة أيضًا لتشويه سمعة شخص بعينه أو التسبب في حدوث أزمات ومشاكل بين الدول وبعضها.
وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً بالغ الخطورة في الإسهام في نشر هذه الإحصاءات والمعلومات المضللة؛ وذلك لسرعتها الفائقة للوصول لعدد ضخم من المتابعين في ذات اللحظة، فتكتسح العديد من المواقع والصفحات مما يجعل الكثيرين يسلمون بصحتها. وللأسف فإن الكثيرين من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لا يبذلون الجهد الكافي للتحقق من دقة المعلومات المعروضة عليهم وليس لدى أغلبهم القدرة على فهم الإحصاءات ومدلولاتها. فالجهة الناشرة لهذا المنشور أو ذاك، تنشر الإحصاء ثم تذيله بتفسيرها الخاص، فيصبح ذلك التفسير مسلمة غير قابلة للنقاش عبر صفحات سريعة الوصول والتداول، كما أن دقة مصادرها تمر دون جدل تحت أثر المشاركة الكثيرة.
ولكن ظاهرة كتلك ليست بجديدة؛ فاستخدام الإحصاءات المضللة لنشر معلومات غير حقيقية ظاهرة معروفة عبر التاريخ، وأشار إليها كثير من الكتاب والباحثين؛ فعلى سبيل المثال الصحفي الأمريكي داريل هوف في عام 1954 في مجموعة من المقالات الصحفية تحت عنوان “كيف لك أن؟” أو “?How to” حذر من خطورة الكذب بالإحصاء قبل أن يحول هذه المقالات فيما بعد إلى كتاب بعنوان “كيف تكذب مستخدمًا الإحصاء How To Lie with Statistics. وكان الهدف من الكتاب تنبيه القارئ إلى الأخطاء التي يمكن أن ترتكب عمداً أو دون عمد من خلال استخدام الإحصاء والأشكال البيانية. ويتضمن الكتاب موضوعات مهمة؛ مثل أن الارتباط الرقمي بين ظاهرتين لا يعني وجود علاقة سببية بينهما، كما يوضح كيف أنه يمكن استخدام الرسوم البيانية الإحصائية لتشويه الواقع (مثل اقتطاع الجزء السفلي من الشكل البياني) بحيث تبدو الاختلافات أكبر مما هي عليه. وأدعو القارئ إلى الاطلاع على هذا الكتاب المرجعي الهام لتجنب الوقوع في شراك المتلاعبين بالأرقام والإحصاءات.
أما في سياقنا المصري، لا يخفي على أحد كيف دأبت بعض الدول والجماعات المعادية لمصر خلال العقد الأخير في فبركة العديد من الإحصاءات والمعلومات؛ وخاصةً ما يقدم منها في صور بيانية بغرض إحداث الوقيعة بين النظام السياسي للدولة وفئات المجتمع كله من خلال تشويه أداء الحكومة وبث روح الإحباط بين الجماهير بمعلومات مغلوطة في كل المجالات من صحة وتعليم واقتصاد وغيرها من المجالات. وليس أدل على ذلك من حجم المعلومات المغلوطة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي منذ تعرض مصر لجائحة كوفيد-19 (كورونا) مثلها مثل باقي دول العالم؛ فانتشرت أرقام عن حجم الإصابات والوفيات لا أساس لها من الصحة بغرض نشر الرعب والفزع بين المواطنين وإثارة حالة من السخط العام على أداء الحكومة. فعلى سبيل المثال، في بداية شهر مايو 2020 انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي شكل بياني يقارن بين منحنيات الإصابة بكوفيد-19 في مصر وتونس ولبنان، وهو الشكل الذى أثار فزع الكثيرين عن ارتفاع مستوى الإصابات في مصر بشكل مرعب. والحيلة التي لجأ إليها المغرضون هي مقارنة إصابات مصر صاحبة الـ 100 مليون نسمة بإصابات دول أخرى لا يتعدى عدد السكان في أيهما عن 10% من حجم سكان مصر. ولأن عدد الحالات المصابة في تونس ولبنان كانت تحت الألف حالة في هذا الوقت، فقد أظهر الشكل البياني أن مصر في وضع مأساوي وأن منحنى الإصابات متجه للأعلى بشكلٍ مفزع، في حين أنه لو أضيفت إلى هذه المقارنات بعض الدول الأخرى في المنطقة مثل السعودية أو تركيا أو إيران لظهر أن عدد الإصابات في مصر في هذا التوقيت يعتبر من أقل دول العالم. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى لإساءة استخدام الإحصاء في الفترات الأخيرة سواء بقصد أو دون قصد، ولكن المجال لا يتسع لسرد المزيد.
في ختامي أقول للقارئ العزيز أن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها حول الإحصائيات وهي أنه من السهل التلاعب بها وإساءة استخدامها؛ حيث يمكن لأي باحث غير محايد أو مصدر تابع لدولة أو جماعة معادية التوصل إلى إحصاءات لإثبات شيء لا وجود له على أرض الواقع. ويكفي تكرار المعلومات الإحصائية الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير حتى يعتبرها البعض صحيحة وواقع حقيقي. ولكي تتجنب الوقوع في هذا الشرك اسمح لي أن أقدم لك مجموعة من النصائح؛ أولها عندما تقرأ معلومة أو إحصائية أو ترى شكلاً بيانياً، ابحث عن المصدر فإذا لم يتم تحديد المصدر أو كان المصدر جهة غير معلومة فلا تثق في هذه المعلومات؛ وثانيها تحقق من كيفية جمع البيانات التي أنتجت المعلومة ومن أين تم جمعها؛ وثالثها لا تنخدع بكل الأشكال البيانية التي تعرض عليك فيمكن التلاعب بمعظمها لإظهار شيء غير حقيقي؛ وأخيراً لا تصدق كل ما يظهر لك على المواقع والصفحات لمجرد أنه “علم” و “بيانات”، حاول معرفة ما إذا كان المصدر لديه بعض الدوافع الخفية للتأثير على رأيك. المهم هو أن نتحرى الدقة، وأن نلتزم الموضوعية.