مقالات كبار الكتاب

د. محمود السعيد يكتب .. أين التفكير النقدي في واقعة الدعاء على الأستاذ المتوفي

د. محمود السعيد – نائب رئيس جامعة القاهرة

لقد أصابني الذهول والحزن الشديد مما رأيته خلال اليومين الماضيين على منصات التواصل الاجتماعي من قيام عدد غير قليل بمشاركة منشور لأحد الأشخاص، والذي له منا كل الاحترام، يدعو فيه على أستاذ جامعي توفاه الله، وذلك تعليقًا على منشور رسمي من الجامعة التي كان يعمل بها هذا الأستاذ لإعلان وفاته ونعيه.

ما أثار حزني حقًا ليس فقط مضمون الدعاء المسيء بحق أحد الأشخاص انتقل إلى جوار ربه، ما أثار دهشتي أكثر هو قيام المئات بمشاركة هذه الإساءة ومنهم عدد غير قليل من الأكاديميين وطلاب العلم، دون أدنى توقف للتفكير النقدي أو مراجعة عقلية لما يشاركونه، وكأنهم جميعًا صدّقوا بمجرد القراءة أن هذا الدعاء دليل كافٍ على وقوع ظلم ما، دون أن يتضمن المنشور أي تفصيل أو بيان أو حتى إشارة إلى طبيعة الظلم المزعوم أو وقائعه أو سياقه. وهنا نحن لا نؤكد أو ننفي وقوع الظلم على من قام بنشر هذا الدعاء، ولكن نؤكد أن هناك خلل في طريقتنا في التعامل مع هذه المنشورات.

لتوضيح ما أرغب في تبيانه اسمحوا لي في البداية بسؤال جوهري: كيف يمكن لأشخاص من المفترض أنهم من ضمن صفوة المجتمع علمًا ومكانة، أن يغيب عنهم التفكير النقدي إلى هذا الحد؟ أين التثبت والتحقق من الادعاءات قبل نشرها؟ وأين القاعدة الأخلاقية التي نشأنا عليها وتعلمناها التي تقول إن الأحكام تُبنى على الوقائع لا على المشاعر والدعوات؟
الواقع يؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن ليس كل من ادّعى المظلومية هو فعلًا مظلوم، كما أن ليس كل من وُجِّهت له تهمة الظلم هو بالضرورة ظالم. أكاد أجزم أن مائة بالمائة من قراء هذا المقال يرى ذلك يوميًا في تفاصيل حياتهم العملية. ألم يصادفكم يوما شخصاً يخالف القانون وعندما يُمنع من تجاوزاته، يعتبر من منعه ظالمًا؛ وهناك من يستغل منصبه أو نفوذه لمصلحة شخصية وعندما يُواجه بتطبيق القواعد، يدّعي الظلم على من أوقفه عند حده لأنه منع عنه رزقه “الحرام بالدين والقانون”.

بل إننا نرى ذلك بوضوح في الحياة الأكاديمية، والأمثلة عديدة. فعندما يُلاحظ الأستاذ المشرف على رسالة علمية وجود خلل كبير في المنهجية التي طبقها الباحث أو قيامه بسرقة علمية من أبحاث أخرى، ويقوم المشرف باتخاذ الإجراءات المناسبة حيال ذلك، فقد يُتهم من الطالب أو ذويه بأنه ظالم، في حين أنه في الحقيقة أستاذ يحترم ضميره وأمانته المهنية. وكذلك المراقب في الامتحانات الذي يمنع الغش أثناء الامتحان، يُوصف بالظلم من بعض الطلاب وأولياء أمورهم، وتُكال له الشتائم والتهديدات وكأن محاربة الغش أصبحت جريمة. وقد رأينا في الأيام السابقة أولياء أمور طلاب يكيلون السباب لأستاذة منعت نجلهم من الغش بدعوى أنها “تؤذيه في مستقبله”.

فالتفكير الناقد مطلوب وبشدة لأن هناك آلاف الحالات التي يُتقن فيها الناس لعب دور “الضحية”، إما عن قناعةً أو ادّعاءً، بينما الحقيقة أن ما قاموا به يخالف القانون أو القيم أو الأخلاق وكان يجب مواجهتهم ومنعهم وتطبيق القواعد عليهم.

أما النقطة الأخرى التي تؤرقني بالفعل وتزيد من حزني بخلاف غياب التفكير النقدي عن أغلبنا، فهي ما طرأ على القيم المجتمعية من تغيير. لقد نشأنا وتربّينا على أن للميت حرمة، وأن من توفي صار بين يدي خالقه، لا يُساء إليه ولا يُشهر به، ولا يجوز أن نذكره إلا بما فعل من خير، أو أن نصمت إذا لم نكن نعرف له خيراً. فما الذي تغيّر في نفوسنا حتى نسمح لأنفسنا بأن ننشر منشورًا يتضمّن دعاءً قاسيًا على ميت لم نعرف حتى ملابسات علاقته بمن يشتكي؟

في الحقيقة إن من حق أي إنسان يشعر بالظلم أن يعبّر عن ألمه طالما أنه يشعر بذلك، وحسابه على الله إذا كان ادعاءه باطلا، ولكن ليس من حقنا نحن أن نشارك ذلك دون تبصّر أو تثبت، خاصة حين يكون المتوفى قد غادر دنيانا ولا يستطيع الدفاع عن نفسه أو تبرير موقفه.

كان من الأولى بنا، احترامًا لأنفسنا قبل احترامنا للآخرين، أن نتوقف قليلًا ونتساءل: هل من كتب الدعاء مظلوم فعلًا؟ وهل من توفي يستحق أن تُشوَّه صورته في أيام عزائه الأخيرة بناءً على منشور لا دليل فيه سوى الغضب؟ وهل يليق بنا أن نشارك في الإساءة إلى سيرة إنسان انتهت حياته ولا يملك ردًا ولا توضيحًا؟

ألم يكن الأولى أن نتمسك بالقاعدة الإسلامية التي تعودنا عليها منذ صغرنا وهي “اذكروا محاسن موتاكم”، أو أن نلتزم الصمت حين لا نعرف الحقيقة كاملة ولا نسير خلف دعاء من شخص دون تفاصيل؟

في الختام أؤكد أن نشر الكلمة مسؤولية حتى لو كانت من شخص آخر وليست كلمتنا نحن، وأن المشاركة ليست فعلًا عابرًا، بل قد تكون شهادة نُسأل عنها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى