د. “الخشت” يكتب … الحكم الرشيد كذروة لسورة الكهف
كتب د. محمد عثمان الخشت
” إذا أعدنا قراءة قصص سورة الكهف ككل، نجد أن البداية فيها كانت بقصة أصحاب الكهف، ثم قصة الرجلين مع الجنتين، وبعدها انعطاف سريع على قصة آدم وإبليس، وبعدها قصة العبد الصالح. أما الذروة التي تتوج قصص هذه السورة، فهي قصة ذي القرنين التي جمعت كافة مقاصد القصص السابقة في قصة واحدة، كنموذج ملهم للحكم السياسي الرشيد.
حيث تبدأ سورة الكهف بالتأكيد على ضرورة بناء المعتقد على العلم الدقيق، ثم تطرح السورة قضية سلامة رؤية العالم من خلال قصة الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، وكيف أنهم عندما اختلفوا مع قومهم في رؤيتهم، وعجزوا عن تغييرهم، قرروا الانعزال ولم يمارسوا الإرهاب ضد مجتمعهم، ولم يقعوا فيما تقع فيه الجماعات الانفصالية المتمردة من حرب تدميرية مسلحة ضد وطنهم. وبعد قصة هؤلاء الفتية، تأتي قصة أخرى هي قصة صاحب الجنتين التي توضح قضية من أهم القضايا، أعني قضية علاقة المعتقد بالملكية والرفاهية والإنتاج الزراعي، وبعدها تأتي قصة العبد الصالح، وهي قصة الحكمة الفعالة.. قصة تحقيق الإنصاف.. قصة رفض مظالم الملوك الذين يريدون الاستحواذ على ممتلكات الأفراد.. قصة حماية الملكية الخاصة.. قصة تضع في حسبانها كل المتغيرات ولا تكتفي بالمعرفة الظاهرة المباشرة. ثم القصة الختامية التي تمثل ذروة السورة، وهي قصة ذي القرنين التي جمعت بين مقاصد القصص السابقة وحققتها على الأرض من خلال مفهوم الحكم السياسي الرشيد.
وهكذا نجد سورة الكهف تتدرج من العلم الدقيق وسلامة المعتقد في أول قصة فيها، مرورا بالقيم الخالدة في القصص الأخرى، حتى تصل إلى المبادئ الكبرى للدولة الرشيدة في قصتها الأخيرة، إنها قصة ذي القرنين مع الأقوام الذين حكمهم.. إنها قصة الدولة القائمة على:
− التفكير الديني الصحيح وسلامة الرؤية.
− التفكير العلمي وتوظيف أسباب العلم.
− التخطيط المدروس.
− تحقيق الإنصاف.
− إعطاء قيمة مضافة لموارد الطبيعة.
− التنمية.
− تحقيق الأمن للشعوب.
− محاربة الإرهاب والاستعمار الظالم.
إن قصة ذي القرنين تقدم نموذجا لحاكم يطبق مبادئ رشيدة وقواعد عامة في الحكم، لكنها طبعا لم تتحدث عن تحديد طبيعة وشكل نظام الحكم: هل هو إمبراطورية أم مملكة أم دولة أم خلافة. ولم تحدد هل كان ذو القرنين إمبراطورا أم ملكا أم رئيسا أم خليفة أم فرعونا. والمفهوم من السياق أنه حاكم وقائد عسكري، لكن السورة لم تحدد صفته، حسب أنواع أنظمة الحكم، وكأنها تلمح إلى أن المهم هو تحقيق مبادئ وقيم الحكم الرشيد بصرف النظر عن طبيعة وشكل النظام السياسي.
وهذا درس من الدروس الكبرى لسورة الكهف، فالطبيعة السياسية لنظام الحكم تتغير بتغير الظروف التاريخية والاجتماعية، وحسب سياق كل دولة؛ فما يصلح لشعب قد لا يصلح لشعب آخر في العصر نفسه، وما يصلح لشعب معين في عصر تاريخي قد لا يصلح للشعب نفسه في عصر تاريخي آخر. لكن هناك مبادئ خالدة وقيم مستدامة يجب أن يقوم عليها أي حكم سياسي رشيد في أي عصر.
وقد أخطأ سيد قطب في ظلال القرآن، عندما قال إن ذا القرنين: “لا يُذكر لأنه ملك، ولكن يذكر لأعماله الصالحة”. وكأن ذكره كملك أمر غير لائق! وفي تصوري أنه يُذكر لأنه حاكم سياسي وقائد عسكري ينفذ قواعد الحكم الرشيد، ويفكر تفكيرًا علميا، ويأخذ بالأسباب وبالتخطيط المدروس، ويقاوم الإرهاب، ويعطي قيمة مضافة تحقق الأمن للشعوب التي يحكمها. إن الأعمال الصالحة ككل قد يفعلها الحاكم أو غيره من عموم الناس، لكن تنفيذ قواعد الحكم الرشيد خاصة لا يملكها سوى الحاكم. ولذا ذكر القرآن قصة ذي القرنين. ولو فرضنا أنه كان ملكا فإن هذا لا يعيبه، بل إنه يزينه كملك عادل. لكن القرآن تجاوز هذه الصفة، وتحدث عنه كحاكم وقائد عسكري بشكل عام فهذا هو الباقي بمرور العصور.
وقد قامت سورة الكهف بتحرير أحداث قصة ذي القرنين الحاكم الرشيد من تحديد الزمان الذي عاش فيه، كما حررت الأحداث من تحديد اسم الأماكن التي حكمها، حتى يصبح حدثا كليا يمكن أن يصلح لكل زمان ومكان؛ لأن المقصود هو “العبرة” التي لا تفقد دلالتها في كل العصور، المقصود هو “ذكر” ما هو كلي ودائم ويصلح كمبادئ عامة.. ولذلك فإن قول سورة الكهف: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا)، (الكهف: 83).. لم يأت عبثا؛ فالقرآن الحكيم يتلو منه ذكرا، أي جانبا مهما يشتمل على ما هو باق ودائم، وليست تفصيلات عابرة للتسلية، ولا مرويات قصصية مؤقتة لا دوام لها، ولا أحداثا جزئية لا قيمة كلية لها.
ومع ذلك، فإن كثيرا من كتب التراث تورطت في التفصيلات والقصص غير الثابتة حول ذي القرنين، وتركت الدائم الذي توجهنا إليه سورة الكهف الفريدة. وإذا طالعت -عزيزي القارئ- تفاسير القرآن البشرية، فسوف تجد كثيرا منها قد غرقت في المرويات الأسطورية عن ذي القرنين وحاولت تحديد شخصه وزمانه ومكانه. وكأنها تأخذ القرآن الحكيم من سياق الخلود إلى سياق المؤقت المرتبط بزمان ومكان محددين”.