مقالات كبار الكتاب
د. محمد عثمان الخشت يكتب … لسورة الكهف معانٍ أخرى (9)
كتب د. محمد عثمان الخشت
أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة- عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
أستاذ فلسفة الدين- رئيس جامعة القاهرة- عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
“إن قليلا من الفلسفة يؤدي إلى الكفر، لكن كثيرا من الفلسفة يؤدي إلى الإيمان.. قول شهير منسوب إلى الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون. ويثبت كثير من التجارب صحة هذا القول، ومنها تجربتي الشخصية. ولا شك أن التوظيف الفلسفي للعقل يرشد الإنسان إلى جانب من الحقيقة، وأن الفلسفات العقلية تلتقي في مساحات مشتركة مع الإيمان.
لكن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة سوى مبدع الوجود: (لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) (الكهف: 26).. فالله وحده هو الأعلم .. هو الأبصر بكل شيء.. والأسمع لكل شيء.. وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا كائنا من كان.. سواء كان شخصا أو مؤسسة أو هيئة، وعليه فلا يملك أحد الحقيقة المطلقة سواه سبحانه بنص القرآن الكريم.
إن الكهف العقلي عند أفلاطون “كهف واحد”، بينما الكهف العقلي في سورة الكهف في حقيقته ليس كهفا واحدا، وإنما “كهوف” متنوعة تكشف فساد أنواع عديدة من تفكير البشر أصحاب العقول المغلقة.. إنها كهوف التقليد والنقل والجمود والتمسك بالظاهر ورفض التجديد… إلخ، إنها كهوف يرفع رايتها بعض الكهنة الذين لا يزالون يحتفظون بالتأثير على جموع العوام.
وبطبيعة الحال لا نزعم- وليس لأحد أن يزعم- أن هناك تأثيرا وتأثرا بين سورة الكهف وأسطورة الكهف الأفلاطونية، بل نزعم فقط أن هناك مساحات مشتركة بين العقل الفلسفي والعقل الإيماني.. وأن توظيف العقل وفق منهجية صارمة يؤدي بك إلى إدراك ما هو أبعد من الظاهر وما هو أبعد من الحواس.
والمقاربة مع أفلاطون لا تعني أننا أفلاطونيون، فنحن نختلف مع كثير من أفكاره، كما نختلف مع أراء كثير من الفلاسفة بعامة، فلا توجد فلسفة تملك الحقيقة المطلقة، مثلما لا يوجد مذهب فقهي أو عقائدي بشري يملك الحقيقة كاملة.. وهذه سمة كل ما هو بشري. وعلى الرغم من وجود خلافات كبرى، فإن هناك مساحات مشتركة متقاطعة بين جميع الأطراف، يمكن أن يلتقي عندها الجميع.
ومن هذه المساحات المشتركة، أن العقل الواعي- سواء في القرآن أو في العلم أو في الفلسفة- لا يقف عند حدود الظاهر، بل يعتمد على المنهج العلمي الذي يعمل وفق شروط البرهان وقواعد العقل المنهجي.
وإذا عدنا للمقاربات بين سورة الكهف القرآنية وأسطورة الكهف الأفلاطونية، فسوف نجد أفلاطون قد عبر عن مقاصده العقلية موظفا الأسطورة كوسيلة درامية؛ حتى يقرب فكرته العقلية للناس.. بينما عبرت سورة الكهف بواسطة القصص الواقعية المشوقة حتى تقرب مقاصدها العقلية لجميع المتلقين.
تشير سورة الكهف إلى أولئك البشر الذين يعيشون في العالم الدنيوي معتقدين أن الظاهر وحده هو الحقيقة، وأن المؤقت هو الدائم، بينما هم مغيبون عن إدراك الواقع على حقيقته.. وأيضا كهف أفلاطون هو العالم الدنيوي نفسه الذي يعيش فيه الناس الغارقون في عالم الظاهر، ولا يستطيعون إدراك الحقائق الكبرى؛ لأنهم مقيدون بالحواس والمعرفة الحسية.. ويظنون أن ما يدركونه هو الحقيقة، بينما هم في الواقع لا يدركون إلا ظلالها الخارجية. ولا شك أن مثل أفلاطون الذي جاء على لسان سقراط قد أظهر لنا مدى انخراط الناس في طرق الإدراك الزائفة ومدى تمسكهم المتعصب بأفكارهم القديمة. وهذا أيضا ما أظهرته سورة الكهف الفريدة.
ونجد الناس “داخل” كهف أفلاطون مقيدين بسلاسل العادة والتعود والعرف والتقليد وضيق أفق الإدراك، حيث يكشف سقراط قصور إدراكهم وبعدهم عن الحقيقية، بينما نجد أولئك الناس أنفسهم “خارج” كهف الفتية الذين آمنوا بربهم، حيث يعانون من قصور البصر والبصيرة. لكن الفتية أنفسهم الذين آووا إلى الكهف تحرروا من المعرفة الزائفة، وتخلصوا من التصورات الباطلة التي يعيش فيها من يحيون في العالم الخارجي.. إن كهف الفتية المؤمنين هو كهف الاعتزال عن العالم الخارجي عندما يستحيل تغيير ذلك العالم إلى الأفضل.. إنه كهف تلقي الرحمة من متاعب الحياة الخارجية.. إنه كهف يهيئ الله فيه للذين آمنوا به موضعا للراحة وأسباب الحياة بعيدا عن اضطهاد أهل الباطل: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) (الكهف: 16).
ومع أن أولئك الذين يعيشون داخل كهف أفلاطون يتشابهون مع أولئك الذين يعيشون خارج كهف الفتية، فإن الالتقاء هو في التأكيد على أن كلا من المجموعتين مغيبة عن إدراك الحقيقة، سواء في أسطورة الكهف الأفلاطونية أو في سورة الكهف.. ولذلك تجد القرآن الكريم يصفهم في سورة أخرى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، (الأنعام: 116).
إن القرآن الكريم يرفض المعرفة الظنية، والفلسفة العقلية أيضا ترفض المعرفة الظنية، وكلاهما يؤكد أن أغلب الناس دوما بعيدون عن الصواب ويتبعون الظن.
عزيزي القارئ.. فكرة هذا المقال لم تكتمل، وللحديث بقية إن شاء العليم الحكيم..”.
د. #محمد _الخشت
أستاذ #فلسفة_ الدين_ رئيس جامعة القاهرة-
عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- عضو الأكاديمية العسكرية المصرية
بواسطة دكنور محمد الخشت … نشر في جريدة الأهرام