أحمد المسلماني يكتب .. الحداثة السائلة.. تتبخّر!
بقلم أحمد المسلماني
قال لي الدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم: كنّا في اجتماع مع الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، وطلب منّا الرئيس أن نضع تصورات لإدارة الأزمات الكبرى التي يمكن أن تواجه الولايات المتحدة، وقد جرى الحديث عن احتمالات وقوع أعمال إرهابية كبرى على غرار أحداث 11 سبتمبر، وتحدث آخرون عن احتمالات إصابة سواحل البلاد بموجة تسونامي مدمرة وغير مسبوقة، ثم وصل النقاش إلى احتمالات أن تخوض الولايات المتحدة حربيْن في وقت واحد، بينما تقع الأحداث الإرهابية، وينطلق تسونامي.. وبينما يواصل أعضاء المجلس من كبار عقول الولايات المتحدة بحث السيناريوهات.. قال الرئيس أوباما: كفى.. لا أريد أن أسمع المزيد، لا أريد أن أتخيل كل ذلك يحدث في وقت واحد.
إذا كان الرئيس الأميركي لا يحتمل النظر في أزمات عدة كبرى مجتمعة يمكن أن تواجه القوة العظمى الأكبر في العالم، فما بالنا بالإنسان المعاصر الذي يواجه جملة تحديات غير مسبوقة في التاريخ، وهو إذْ يواجه بعضها بالفعل، فإنه يواجه الخوف الدائم من بعضها الآخر الذي لم يقع بعد.
في كتابه المهم «مجتمع المخاطرة»، يذهب عالم الاجتماع الألماني «أولريش بيك» إلى أن فكرة التقدم تتراجع وفكرة الخوف تتقدم، وأن ما كان مأمولاً من التقدم العلمي كأساس للراحة والرفاهة لم يعد كذلك، بل صار التقدم أحد أسس الخوف الجديد. يقول «بيك»: إن الجو الثقافي في العالم لا سابق له في التاريخ الإنساني، من حيث درجة الخوف التي يعيشها البشر.
ويسرد بعضاً مما جاءت به الحداثة من الخطر النووي، والإرهاب، والتغير المناخي، والمواد المهجنة، والاستنساخ، والأزمات الاقتصادية والسياسية العالمية.. والتي ضاعفت من حياة الخوف لدى البشر المعاصرين.
في عام 1986، صدر كتاب «مجتمع المخاطرة» لأولريش بيك، وفي عام 2000 صدر كتاب «الحداثة السائلة» للفيلسوف البولندي «زيجمونت باومان» وهو كتاب يقارن الحداثة القديمة بالحداثة الجديدة، ويعرض مسيرة التدهور التي قطعتها الحداثة، حين كانت مبعثاً للآمال في السلام والرخاء، ثم حين أصبحت مصدراً للإثبات وأساساً للايقين.
في «الحداثة السائلة» تراجع المجال العام، والخير العام.. أمام المجال الخاص والمصلحة الشخصية، وانكسر المجتمع أمام الفرد، وغطى الطمع الذاتي على الطموح الوطني. لقد ضاق الإنسان المعاصر بآلام العولمة، والتطرف الرأسمالي القاتل، وإنه ليضيق أكثر بعد انطلاق عصر الذكاء الاصطناعي المروع.. الذي يبدو فيه الخير أشبه بنهر صغير وسط بحر من الظلمات. أصبحت ضغوط العصر وميزانياته فوق الاحتمال، وفي كل يوم تروي الصحف قصصاً قاسية عن الهاربين من الحياة.
وفي «الحداثة السائلة» يروي ناومان قصة رمزية من حكايات الإغريق.. حيث ذهب أوديسوس الذي تحول رفاقه إلى خنازير لينقذهم، ولكنهم ثاروا عليه، فقد كانوا بكونهم خنازير.. متحللين من المسؤولية، ومن اتخاذ القرارات، بل يمرحون بنزواتهم دون خوف أو اعتبار أو قيود أخلاقية. من أوكرانيا إلى تايوان، ومن «كورونا» إلى المناخ، ومن التضخم إلى احتمالات الحرب النووية.. تشتد ضغوط الحياة، ويشقي مجتمع المخاطرة، وتزداد الحداثة السائلة سيولة.. ولربما بدأت في التبخُّر.
بواسطة أحمد المسلماني .. نشر في موقع الأتحاد الإماراتي