عبدالحليم قنديل يكتب … عن عودة سوريا
كتب عبدالحليم قنديل
قبل أكثر من عام ونصف العام ، وقبل بدء حرب أوكرانيا بأربعة شهور ونصف الشهر ، كتبت مقالا بعنوان ” العودة إلى سوريا” ، نشر فى نفس هذا المكان بتاريخ 9 أكتوبر 2021 ، وكان المقال كعنوانه ، يدعم فكرة إعادة العلاقات العربية المقطوعة مع سوريا ، وعودة سوريا الرسمية إلى مقعدها الشاغر فى اجتماعات جامعة الدول العربية ، ولأسباب بدت وقتها ظاهرة ، تراكمت وتأكدت أكثر بعد حرب أوكرانيا ومضاعفاتها ، فقد تبدلت بيئات السياسة ، ولم يعد الوضع كما كان عليه أواخر عام 2011 ، حين قرر اجتماع رسمى عربى طارئ بالقاهرة ، تعليق عضوية سوريا الدولة فى الجامعة العربية ، ثم إحلال جماعة “معارضة” فى المقعد الشاغر بديلا للحكومة السورية ، ثم إجلاء هذه الجماعة عن المقعد بقمة عربية لاحقة فى “شرم الشيخ” عام 2015 ، ثم السعى الذى تواتر بعدها من حكومات عربية ، تفاوت حماسها لإعادة النظام السورى إلى مقعده ، وإلى أن أصبحت المواقف العربية الرسمية متناغمة أكثر ، ومؤيدة على نحو غالب لعودة سوريا ، التى قد يرجح أن تشارك حكومتها فى القمة العربية المقبلة بالعاصمة السعودية “الرياض” .
ولا تخلو القصة طبعا من تحفظات واعتراضات جهيرة وخافتة الصوت ، قد يتساءل بعضها عن مصير الثورة السورية ، وعن مآلات التغيير السياسى ، الذى كان منشودا فى البدايات ، والحق المرئى برغم صدماته ، أن الثورة الشعبية السورية المطالبة بالحرية ، قد وئدت مبكرا ، وفى غضون شهور قليلة من ولادتها فى “درعا” ، وتوارى صوت الشعب ، ليحل صوت الرصاص ، وهو ما سعت إليه جماعة النظام ، وساندتها فى المسعى نفسه للمفارقة ، جماعات نسبت نفسها زورا إلى معنى الثورة والحرية ، بينما كانت تبادل طائفية النظام بطائفية معاكسة ، استترت تحت شعارات “عسكرة الثورة ” ، وأفسحت المجال واسعا لتدخلات أجنبية مدمرة ، حولت بها قصة الثورة فى سوريا إلى انتقام وثورة على سوريا ، وتبارى الكل فى تحطيم سوريا بشرا وحجرا ، فى حرب كافرة دارت على أراضى البلد العربى الأجمل ، أكلت الأخضر واليابس ، وضربت أغلب مدن وقرى سوريا بما يشبه الدمار النووى ، وشردت نصف سكانها بين نازحين ولاجئين ، وقتلت نحو المليون سورى وسورية ، وأزاحت إلى الهامش بشعارات الحرية والديمقراطية ، وجعلت بقاء سوريا فى ذاته على المحك الدموى ، وساد نفوذ جماعات الإرهاب من “داعش” إلى “النصرة” وأخواتها ، بينما وجدها النظام فرصة سانحة للبقاء قسرا ، وبدعوى محاربة الإرهاب وداعميه ، فاستعان هو الآخر بتدخلات أجنبية كثيفة ، من التدخل الإيرانى وجماعاته ، إلى التدخل الروسى ، ودارت الحرب بين الأجانب وملحقاتهم السورية بالوكالة وبالأصالة ، وإلى حد أنه لم يعد من طرف سورى خالص على الساحة ، فحلفاء النظام استعادوا باسمه نحو سبعين بالمئة من مساحة سوريا فى الجنوب والوسط والغرب وبعض مناطق الشرق ، فيما ظل الشمال الشرقى بغالبه حكرا على الجماعات الكردية و”قسد” المحمية بالقوات الأمريكية ، وصار الشمال الغربى بيد القوات التركية ، وبمعية “جبهة النصرة” ، التى غيرت اسمها إلى “هيئة تحرير الشام” ، وصارت لها الكلمة الفصل فى “إدلب” وجوارها “الحلبى” ، مع حضور باهت لجماعات تركمانية ، وأخرى تنسب نفسها لما كان يسمى بالمعارضة المسلحة ، وتحظى بدعم تركى تقليدى يتراجع اليوم ، بعد أن قررت القيادة التركية تطبيع علاقاتها مع النظام السورى ، ومن دون أن تصل القصة بعد إلى نهاياتها ، ربما فى انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية المنتظرة ، وبين الحين والآخر ، تدور مفاوضات بلا معنى ، توقفت فى “جنيف” من سنوات ، وتواترت فى “الأستانة” برعاية موسكو ، أو فى حوار تجمد لما يسمى “اللجنة الدستورية” ، وفى تفسيرات متناقضة للقرار الدولى 2254 ، أو فى مكوكيات مبعوث دولى صار بلا وظيفة فعلية ، ويتلقى راتبه دونما عمل ، وفى سياق مفجع ، تحولت فيه خريطة سوريا إلى مناطق احتلال وانتداب أجنبى ، وإلى أشلاء لمقتلة مفزعة ، وإلى سقوط بالجملة لكل الإدعاءات من كافة الأطراف تقريبا ، فقد ولغت كلها فى دم السوريين كما فعل النظام ، ومن دون اكتراث بسعى إلى “ديمقراطية” ولا إلى “وطنية سورية” ، اللهم إلا باستثناء جماعات متناثرة فى المعارضة ، قد يعتد بنقاء أصواتها ورفضها “العسكرة” و”التدخل الأجنبى” من البداية ، برزت بينها “هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطنى الديمقراطى” ، إضافة لمجموعات أخرى وطيف واسع من الشخصيات الوطنية المستقلة ، بدت كلها عرضة لاتهامات وحصار النظام وجماعات اليمين الدينى معا ، ومعارضات مسلحة تلقت عشرات مليارات الدولارات ، وأنفقتها فى مجارى فساد طافح ، وفى تخريب الصورة الذهنية لثورة الشعب السورى ، وفى دعم جماعات إرهاب دهست سوريا وشعبها ، وجعلت اسم الثورة مرادفا للخراب وضياع الأوطان ، وتكبيد سوريا وأهلها خسائر كلية ، قد تصل لنحو 800 مليار دولار .
والخلاصة هنا ، وكما قلنا بالنص فى صدر مقالنا المنشور قبل عام ونصف العام ، أنه “ربما لا يوجد منطق مقبول وراء وضع العربة أمام الحصان فى قصة سوريا ، ففرص تغيير النظام السورى لا تبدو واردة فى المدى المنظور ، والثورة السورية المطالبة بالحرية قمعت بعنف همجى ، واختفت ملامحها السلمية الشعبية فى صورتها الأولى ، التى لم تستمر سوى لتسعة شهور ، بدءا بصيحة “درعا” ، ثم كان الخطأ القاتل بعسكرة الثورة واستدعاء التدخل الأجنبى ، وهو ما صادف هوى غريزيا عند النظام ، تحول بالثورة فى سوريا إلى ثورة على سوريا” ، ولا يزال الوضع على ما هو عليه إلى اليوم ، فقد تكون المدافع سكتت إلا من قليل متقطع ، لكن الظروف صارت أسوأ بمراحل ، فملايين الشعب السورى اللاجئ للخارج لم تعد ، ولا تتوافر شروط مسهلة ولا مطمئنة للعودة ، والزلازل الأخيرة أضافت لمحنة وعذاب السوريين ، والحملات العنصرية ضدهم تفاقمت فى المنافى ، والمآسى تضاعفت فى حياة الباقين والنازحين على أرضهم ، والعقوبات المفروضة تعتصر الشعب السورى لا جماعة النظام ، وسوريا تحولت إلى أبشع سوق ومصنع للمخدرات و”الكبتاجون” وغيرها ، فوق التمزيق الفعلى المزمن لخرائط سوريا ، وهذه تراكمات مأساة لا عواقب ثورة ، فلا يصح تخيل ثورة مع غياب وتفتيت وطحن عظام الشعب ، ولا يصح تخيل فرصة لإقامة ديمقراطية ولا حرية فى غيبة وطن موحد آمن ، فالديمقراطية لا تبنى فى فراغ ، ولا فى ظل استيلاء الأجانب على الوطن ومقدراته ، وهو ما دلت عليه تجارب توالت فى منطقتنا ، بدءا من كارثة العراق وإلى ما يجرى فى السودان ، ولا يمكن القفز على حرية الوطن بدعوى أولوية حرية الناس ، وهو ما يذهب بحرية الأوطان ويستذل الشعوب معا ، ومعارضة عودة سوريا إلى مقعدها بالجامعة العربية باسم الثورة ، يعوزها المعنى والحس السليم فيما نظن ، فالحكومة السورية عضو عامل فى الأمم المتحدة وفى روابط دولية عديدة ، وعضويتها فى الجامعة العربية أمر طبيعى ، فالجامعة للحكومات لا للشعوب ، وحكومات عربية كثيرة توصف بالديكتاتورية والفساد ، كما النظام السورى ، ومن دون أن يبادر أحد بإخراجها كما جرى مع النظام السورى ، وهو فى رأينا نظام ديكتاتورى وطائفى ودموى بلا شبهة ، ومعارضاته المسلحة كذلك وأنكى ، ومن حق الشعب السورى وحده أن يصوغ مصير نظامه ، وعزل سوريا لا يفيد شعبها ، ويخصم من قابلية الوطن السورى للحياة ، وتجربة العزل على مدى عقد من الزمان ، كانت نتائجها مريرة ، وحجبت كل دور عربى وكل صوت عربى عن التأثير إيجابا فى الحوادث السورية ، وصارت سوريا مرتعا لتحكم الأجانب البعيدين والأقربين ، بينما عودة سوريا إلى النظام الإقليمى العربى ، حتى لو كان هشا ، قد تفتح الأبواب والفرص لحضور عربى ، ربما ينافس ويزاحم الحضور الأجنبى ، ويساعد بقدر على استعادة وحدة التراب السورى ، وينعش الاقتصاد المنهار ، ويمول ويضمن عودة ملايين من اللاجئين السوريين ، خصوصا أن العودة العربية تجرى فى سياق مستجد ، تتحول به الحركة الدولية إلى عالم متعدد الأقطاب ، تتدافع فيه صور التمرد على الهيمنة الأمريكية المحطمة لأوطاننا ، وتتساقط فيه صدقية وجدوى التدخلات والعقوبات باسم الحرية المكذوبة ، ويزيد وعى الحكام والمحكومين بأولوية الحفاظ على الأوطان وهياكل الحكم المستقل ، وهو ما يفسر تزايد التأييد الرسمى العربى لمبدأ عودة سوريا للجامعة ، برغم معارضة الأمريكيين والمعسكر الغربى ، فعودة سوريا إلى الجامعة تصحيح لأخطاء ، لم يثبت أنها أفادت أبدا ثورة الشعب السورى فى شئ ، بل فاقمت المآسى والمحن ، ثم أن الوجود فى الجامعة لا يمنح شهادة إبراء ذمة للنظام السورى ولا لغيره ، فكلنا فى الهم شرق .. وعرب مبتلون .
[email protected]